عالم يتغير
فوزية رشيد
بحثًا عن الروح!
{ في عالمٍ غارقٍ في الماديًّاتِ والشكليًّات والمظهريات في جانب، وفي سطوةِ الظلمِ واللاعدالة، واختلالِ النظام الدوليِّ من جانب آخر! فيما الفقرُ والجوعُ والمرض والأوبئة تنخرُ معًا عظامَ غالبيةِ الشعوب في العالم سواء بإحداها أو بكلِّها معًا، ولعلَّ ما يحدثُ في «غزةَ» خيرُ برهانٍ على ما وصلت إليه القيمُ الإنسانيَّة والأخلاقيَّة والحقوقيَّة من تدهورٍ على المستوى الدوليِّ الرسمي تحديدًا، بما يجعلُ الإنسانَ المحبَّ للإنسانيَّةِ والسلامِ والعدالة والمساواة في الحقوق بين كل البشر، إنسانًا تائهًا، مصابًا في صميم روحِه وإنسانيته! فيصرخ ولا يجدُ لصراخِه صدى أو استجابةً إلا من طرقات المدن التي يجوبُها منذ شهور رفضًا للعنصريَّة والتطهير العِرقي والإبادة الجماعية، التي تحدثُ في غزة، حتى تحولت غزة هذه، إلى (أيقونة) يبحث فيها (الإنسانيون) في العالم وليس فقط المسلمون عن خلاص لأرواحهم وضمائرهم، وحرية إنسانيتهم، وهم يبحثون عن الحرّية لفلسطين وإيقاف شلال الدم والتجويع!
{ واليوم ونحن في الأيام الأولى لشهر رمضان الفضيل، الذي جعله الله شهرًا من كل عام، لتستكين فيه النفسُ بالعودةِ إلى الروح، وهو الله الذي برمج الإنسانَ على الفِطرةِ الروحيَّة، ووقفة للمراجعة السنوية لتلك الروح، لكل مسلمي أو مؤمني العالم من المسلمين، بحيث يكونُ البحثُ الروحيُّ بعد الانغماسِ في المحسوسات والماديات، هو بحثٌ تتراكمُ فيه كلُّ ما تحتاجُه هذه الروحُ من نفض الغبار عن جوهرها، وأبعادها الإنسانيَّة والأخلاقيَّة والدينيَّة! فلكأنها هجعةُ المستكين في أفياء (الأبعاد غير المرئية) التي تنتمي لها، وتدرك في صميم أعماقها أنها قد تعبت من اللهاث خلف الملذات والشهوات والماديَّات والغرائزيَّة المنفلتة! وآنّ الأوانُ لاستراحتها، والبحث في الجانب الآخر من وجودها، وهو «الجانبُ الروحيُّ» الذي يتألَّقُ في العبادات والطاعات وعمل الصالحات والقرب من الله الخالق.
{ لم يفرض اللهُ خالقُ الإنسان وكلُّ شيء مسخَّرٌ له، شهرَ الصيام وهي العبادةُ التي جعل أجرَها مخفيًّا عنده وبتقديره، إلا لأنه الخالقُ الذي يعرفُ طبيعةَ النفسِ البشرية التي خلقها، فيأتي هذا الشهر ليذكره بكل ما تناساه في الشهور الأخرى الأحد عشر من عام يمرُّ في عمره! فجعل هذا الشهرَ تذكرةً للبحث عن الروح والعودة إلى خصائصِها الجوهريَّة وكبح جماح الشهوات والآثام والمعاصي، فإن التزم بموجباتِ هذه العبادة في هذا الشهر الفضيل غفر الله له، وعاد نقيًّا إلى جوهرٍ كاد أن ينساه في زحام الطرقات وكواليسها المظلمة، وهو يرتكبُ المعاصيَ ويغترفُ الذنوب! فيتذكر المؤمنُ ما تناساه من الفضائل، كطفلٍ ركضَ طويلاً في الردهات، بحثًا عن راحة الضمير وصفاء القلب ونقائه، وسمّو الوجه الآخر لطبيعته الكامن في الروح وأسرارها والعبادات والطاعات التي تفتحُ أبوابَها له للدخول!
{ ولكن الله لم يفرض صيامَ هذا الشهر للخلاص الذاتي وحده، وللتنقية الروحيَّة، بل ربطها بكل ما يربط بين المؤمن وأخيه المسلم والإنسان وصلة الرحم، وتدفق الشعور الإنساني تجاه المحرومين والجائعين والفقراء والمظلومين!، فإن لم يتدفق نبعُ هذا التواصل الإنساني لمن يحتاجه، تكن عباداته وطاعاته لم تصل إلى مبتغاها ولم تقترن بالعمل الصالح، الذي هو أحدُ أسرارِ هذا الترابط الإنساني بين البشر وخاصة بين المسلمين!
{ هذا الامتحانُ العسيرُ يطلُّ هذا العام بعسره وشدّته، ونحن نرى أخوةً لنا في الدين وفي العِرق وفي الإنسانيَّة في غزة، وهم يبادون على مدار الساعة أمام أعينِنا ومنذ شهور! ولا نملكُ كشعوبٍ واليوم كصائمين يبتغون فعلَ الخير، لا نملك قدرةَ التواصل ومدَّ اليد كما يجب، فيما الأطفالُ والنساء يتمُّ قتلُهم بالقصف أو التجويع أو حتى حصار المساعدات!
والدولُ العربيَّة والإسلاميَّة عاجزةٌ (عجز الإرادة والقرار والتلاحم) عن إيقافِ ما يرتكبُه العدو الصهيونيُّ وأعوانه من شياطين العالم وعن ردعه أو عقابه أو محاسبته!
{ هذا العامُ ربما هو العامُ الأقسى ليس فقط على المسلمين وإنما على كلِّ أحرارِ العالم والإنسانيين، ليأتي رمضان فيزيد على المسلمين ثِقلُ الأغلال التي يرزحون تحتها! وليصبح البحثُ عن الروح فيه مثقلاً بدوره بظلامية ما تكشف في العالم، وعن الفراغِ الإنسانيِّ والأخلاقيِّ، ولكأن الروحَ المؤمنةَ في هذا الشهر الفضيل من هذا العام، تائهةٌ في غموض ما ينكشف أمامها من أسباب الظلم والقهر وجوع الشعوب في العالم، وأكثر تجليات ذلك يحدثُ في غزةَ الآن ومنذ شهورٍ طويلةٍ وثقيلة!
{ هل سنجدُ (صفاءً روحيًّا) يتيحه هذا الشهرُ، لننعمَ به، أم أن الحرمانَ منه عقابٌ لكلِّ الواقعين في خانة التواطؤ أو العجز، مهما أقاموا الصلوات وشرعوا في العبادات، فالله الذي خلقنا لا يحتاجُ إلينا فيها، وإنما نحن المحتاجون، والعباداتُ لا تكتملُ إلا إذا تجلّت في الأعمال، وأول الأعمال الصالحات مدّ يد العون لإخوة لنا غارقين في ظلم الإبادة والتجويع!
نسأل اللهَ أن يُفرجَ هذه الغُمةَ عن الأمة!، وأن تنزاحَ ستائرُ الظلمِ الواقعة على أهل غزةَ، وأن تتحركَ ضمائرُ الغائبين عن الفِعل الواجب من القادة المسلمين، فالشرُّ مستطير والحملُ ثقيل، والرجاء في الله وحده أن يعين أهلَ غزة على ما ابتلوا به ونحن نؤمنُ بحكمتِه الإلهيَّة في هذا الابتلاء لهم ولكل ضمائر المسلمين!
كل عام والجميع بخير
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك