العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لا «هابي بيرث داي» لا رأس سنة

مثل‭ ‬معظم‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلي‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬بفالنتاين‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وعاشت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬حينا‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬ورحلت‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تسمع‭ ‬بعيد‭ ‬الأم،‭ ‬ولأسباب‭ ‬أفهمها‭ ‬لم‭ ‬يحتفل‭ ‬أهلي‭ ‬إطلاقاً‭ ‬بأعياد‭ ‬ميلادي،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأسباب‭ ‬أن‭ ‬يوم‭ ‬مولدي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬‮«‬عيدا‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬مجرد‭ ‬فم‭ ‬إضافي‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬سبقني‭ ‬من‭ ‬إخوتي‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬والملبس،‭ ‬وقام‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭ -‬لا‭ ‬بارك‭ ‬الله‭ ‬فيه‭- ‬بتذكيري‭ ‬طوال‭ ‬40‭ ‬سنة‭ ‬بيوم‭ ‬مولدي‭ (‬1‭ ‬سبتمبر‭) ‬لأنه‭ ‬انقلب‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬الملك‭ ‬السنوسي،‭ ‬وقامت‭ ‬الجماهيرية‭ ‬العربية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬الليبية‭ ‬العظمى،‭ (‬ومن‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬تثكله‭ ‬أمه‭ ‬فليسألني‭ ‬عن‭ ‬سنة‭ ‬مولدي‭)‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬منذ‭ ‬انقلاب‭ ‬القذافي‭ ‬أصبحت‭ ‬أجهزة‭ ‬الإعلام‭ ‬العربية‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬تذكيري‭ ‬بيوم‭ ‬مولدي‭.‬

ولم‭ ‬يسبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬احتفلت‭ ‬برؤوس‭ ‬السنين،‭ ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬احتفل‭ ‬بتلك‭ ‬المناسبة‭ ‬رغم‭ ‬اقتناعي‭ ‬التام‭ ‬بأنها‭ ‬مفتعلة،‭ ‬ولم‭ ‬أوفّق‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المحاولات‭ ‬إما‭ ‬لأن‭ ‬مجموعة‭ ‬أصدقائي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب‭ ‬وما‭ ‬تلاها‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬‮«‬المتخلفين‮»‬،‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يفهمون‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬ومؤخرتها،‭ ‬ولا‭ ‬يحتفلون‭ ‬إلا‭ ‬برأس‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬أفرنجي‭ ‬عندما‭ ‬يتسلمون‭ ‬رواتبهم،‭ ‬وكانت‭ ‬المشكلة‭ ‬الكبرى‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي‭ ‬أن‭ ‬احتفالات‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬تقام‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬في‭ ‬أندية‭ ‬ذات‭ ‬خمس‭ ‬نجوم‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليجوز‭ ‬لأمثالي‭ ‬مجرد‭ ‬الاقتراب‭ ‬منها‭.‬

ثم‭ ‬كانت‭ ‬القطيعة‭ ‬النهائية‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬رؤوس‭ ‬السنة‭ ‬عندما‭ ‬دعاني‭ ‬صديق‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الراقي‭ ‬نسبياً‭ ‬إلى‭ ‬حفلة‭ ‬ذات‭ ‬رأس‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الفنادق،‭ ‬وكنت‭ ‬وقتها‭ ‬بالسنة‭ ‬الأولى‭ ‬بالجامعة‭ ‬وطلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يلتقطني‭ ‬بسيارته‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬المقاهي،‭ ‬الذي‭ ‬اعتدت‭ ‬تناول‭ ‬الآيس‭ ‬كريم‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬الوطنية،‭ ‬أو‭ ‬كلما‭ ‬انتعشت‭ ‬أحوالي‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬إلي‭ ‬بعد‭ ‬غروب‭ ‬الشمس‭ ‬بقليل،‭ ‬وتوجهت‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬قبل‭ ‬الموعد‭ ‬بنحو‭ ‬ساعتين‭ ‬وظللت‭ ‬ألعق‭ ‬كأس‭ ‬الآيس‭ ‬كريم‭ ‬نحو‭ ‬ساعة‭ ‬ثم‭ ‬حان‭ ‬موعد‭ ‬صلاة‭ ‬المغرب،‭ ‬فتوجهت‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الخرطوم‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬أناقتي‭ ‬الإفرنجية،‭ ‬وغادرت‭ ‬المسجد‭ ‬عقب‭ ‬الصلاة‭ ‬لأكتشف‭ ‬أن‭ ‬حذائي‭ ‬قد‭ ‬اختفى‭.‬

وكان‭ ‬موقفاً‭ ‬عصيباً‭: ‬شاب‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الأناقة‭ ‬والوجاهة‭ ‬يرتدي‭ ‬ربطة‭ ‬عنق‭ ‬حريرية‭ ‬وقدماه‭ ‬حافيتان،‭ ‬والمسجد‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬المدينة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامي‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬إلا‭ ‬التفرغ‭ ‬للعبادة،‭ ‬وظللت‭ ‬داخل‭ ‬المسجد‭ ‬أتنفل‭ ‬حتى‭ ‬دميت‭ ‬ركبتاي،‭ ‬ثم‭ ‬تسللت‭ ‬خارجا،‭ ‬ولأن‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬عباده‭ ‬الطيبين‭ ‬لمحني‭ ‬صاحب‭ ‬المقهى،‭ ‬وأبلغني‭ ‬أن‭ ‬شخصاً‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬يسأل‭ ‬عني،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬صديقي‭ ‬البرجوازي،‭ ‬فحكيت‭ ‬للرجل‭ ‬الطيب‭ ‬تفاصيل‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬بي،‭ ‬وكعادة‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬شاكلته‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬شهما‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬الانتظار‭ ‬قليلا‭. ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬وسلمني‭ ‬زوجاً‭ ‬من‭ ‬الأحذية‭ ‬وحاولت‭ ‬بحركة‭ ‬مسرحية‭ ‬إعطاء‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنني‭ ‬بصدد‭ ‬رد‭ ‬قيمة‭ ‬الحذاء‭ ‬إليه‭ ‬فاقسم‭ ‬بأن‭ ‬زوجاته‭ ‬الثلاث‭ ‬طالقات‭ ‬بواقع‭ ‬ثلاث‭ ‬طلقات‭ ‬لكل‭ ‬واحدة‭ ‬منهن‭ ‬إن‭ ‬هو‭ ‬أخذ‭ ‬مني‭ ‬قرشا‭ ‬واحدا،‭ ‬ومضى‭ ‬إلى‭ ‬وجهة‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينتظر‭ ‬مني‭ ‬كلمة‭ ‬شكر،‭ ‬وبالطبع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الرجل‭ ‬الطيب‭ ‬قد‭ ‬سألني‭ ‬عن‭ ‬مقاس‭ ‬قدمي‭ ‬فأتاني‭ ‬بحذاء‭ ‬تتسع‭ ‬الفردة‭ ‬الواحدة‭ ‬منه‭ ‬لقدمي‭ ‬الاثنتين‭ ‬واضطررت‭ ‬إلى‭ ‬حشو‭ ‬كل‭ ‬فردة‭ ‬بقصاصات‭ ‬من‭ ‬الورق‭ ‬ثم‭ ‬غادرت‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬خطوات‭ ‬محسوبة‭ ‬ماشياً‭ ‬كمن‭ ‬يخوض‭ ‬وحلا‭. ‬وكانت‭ ‬مشية‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخيلاء‭ ‬غير‭ ‬المتعمدة‭ ‬لذاتها،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬بقاء‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬قدمي‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬داخل‭ ‬الحذاء،‭ ‬وقليلا‭ ‬قليلا‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬المدينة‭ ‬ثم‭ ‬سلكت‭ ‬شارعاً‭ ‬فرعياً‭ ‬مظلما‭ ‬وحملت‭ ‬الحذاء‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬وظللت‭ ‬ماشياً‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬مدخل‭ ‬السكن‭ ‬الداخلي‭ ‬بالجامعة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬شحاذ‭ ‬في‭ ‬خيمة‭ ‬صغيرة،‭ ‬وقدمت‭ ‬له‭ ‬الحذاء‭ ‬صدقة‭ ‬لوجه‭ ‬الله،‭ ‬وتسللت‭ ‬إلى‭ ‬غرفتي‭ ‬عبر‭ ‬النافذة،‭ ‬وكانت‭ ‬المفاجأة‭ ‬أن‭ ‬صديقي‭ ‬البرجوازي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬انتظاري‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬انزعاج‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬حفلات‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬تبدأ‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الليل،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ممكناً‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬معه‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لدي‭ ‬حذاء‭ ‬احتياطي‭ ‬فاختلقت‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الأكاذيب‭ ‬البيضاء‭ ‬والسوداء‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬أصحبه‭ ‬إلى‭ ‬الحفل،‭ ‬ومن‭ ‬يومها‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أستبشر‭ ‬خيراً‭ ‬بقدوم‭ ‬السنة‭ ‬الميلادية‭ ‬الجديدة،‭ ‬أو‭ ‬صحبة‭ ‬المتبرجزين‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا