زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عيالي فشّلوني!
سبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة/ أعمى وأعشى ثم ذو بصر وزرقاء اليمامة، راتب لاعب الكرة كريستيانو رونالدو في نادي النصر السعودي 574 ألف يورو في اليوم، وكنت من محبي هذا النادي حبا في رئيسه الراحل الأمير عبدالرحمن بن سعود رحمه الله، ومع هذا لم يفكر النادي في تسجيلي حتى في فريقه لتنس الطاولة.
حرص والدي، رحمه الله، على إلحاق عياله بنين وبنات بالمدارس، ولكنه لم يكن مهيأ لحقيقة أن باب التعليم واسع، فعندما أكملت المرحلة المتوسطة، وأبلغته أنني سأنتقل إلى المرحلة الثانوية، غضب لأنه حسبني «مستهبلا»، فلم يكن يتصور أن إنساناً قضى ثماني سنوات في المدارس، بحاجة إلى المزيد من التعلم، ولكنه سكت عن ذلك على مضض، وعلى أمل أن أثوب إلى رشدي بأن أقطع تعليمي وأصبح «أفنديا» أي موظفا حكوميا.
ولن أنسى تلك الليلة عندما التف الأهل وسكان الحي حول جهاز الراديو الضخم ليستمعوا إلى نتائج امتحانات الشهادة الثانوية، وما أن نطق ذلك الجهاز السحري باسمي حتى انفجرت الزغاريد وهتافات «الله أكبر» وأتى أحد جيراننا ببندقية من القرون الوسطى وكاد أن يحول فرحتنا إلى مأتم، عندما انفجر البارود في وجهه بعد أن ضغط على الزناد، ومن حسن حظه وحظنا أن البارود كان فيما يبدو «مستعملا» أي سكند هاند، حيث إن وجهه الذي غطاه السواد لم يصب بأذى، وظل الحي بأكمله في حالة ابتهاج لعدة أيام، ليس لأنني نجحت في امتحان مصيري، بل لأن الراديو نطق باسمي.
وهكذا دخلت التاريخ لعدة أشهر، فأجهزة الراديو في تلك الأيام كانت حكراً على الطبقات الأرستقراطية، وكان بعضها موزعا على المقاهي الشعبية الراقية، وكانت الأسماء التي يرد ذكرها من خلال الراديو فقط للوزراء والزعماء وكبار الشخصيات، وعندما نطق الراديو باسمي أصبحت في نظر أهلي في مقام جمال عبدالناصر وكوامي نكروما وجواهر لال نهرو، وكنت في نظر أهل الحي في مرتبة ضابط يذيع بيانه رقم «1»، المهم، كنت مصدر فخر لجميع أبناء الحي لأن الراديو شخصياً خصني بالذكر.
وبالنسبة لي فإن الفرحة لم تدم طويلا، فعندما أدرك السيد الوالد أن الشهادة الثانوية ستوصلني إلى المرحلة الجامعية، كان ذلك عنده بمثابة إصابتي بلوثة عقلية، ولم يكن ممكنا إقناعه مرة أخرى بأن ابنه الذي قضى 12 عاماً وهو يدرس، مازال في حاجة إلى تعليم، وبحسب والدي أن الحكومة تتآمر على ابنه لتحرمه من الوظيفة والراتب، وأن الحكومة تستدرج ذلك الابن ليضيع سنوات أخرى من عمره في جامعة، لم تكن في نظره بأكثر من «مؤنث جامع»، وتم حسم الأمر باتفاق سري بين أقطاب العائلة من وراء ظهر «العميد» بأن التحق بالجامعة على أن يتم إبلاغ الأخير بالأمر بعد أن يصبح دخولي إلى الجامعة أمراً واقعاً..
وهكذا ارتكبت غلطة العمر ودخلت الجامعة، فأضعت بضع سنوات من عمري إلى أن حصلت على الشهادة الكبيرة الجوفاء، والتي اكتشفت فيما بعد أنها مؤهل لتحويل الناس إلى طائفة «عبدة آخر الشهر»، أي موظف ومجرد رقم في جهاز الخدمة المدنية تكون له قيمة مؤقتة عند نهاية كل شهر، عندما يستلم راتبه لحلحلة ديونه بحيث يكون مؤهلا للاستدانة مرة اخرى. واكتشفت أيضاً أن والدي الامي كان بعيد النظر عندما أعلن عن غضبه من استمرار تضييع عمري في تجاويف السلم التعليمي. ولذا فإنني وبعد أن اصبحت أبا بدوري فكرت في تشجيع ولدي الاثنين على اكتساب مهارات في كرة القدم، أو الغناء، ولم ينجح الأكبر في نحو مائة مباراة في تسجيل هدف واحد، أما الأصغر، فقد اختار أن يكون حارس مرمى، وكان يأخذ الأمر بجدية ويعود، بعد كل مباراة فخورا بإنجازاته، وذات يوم أتاني فرحا مسرورا، عقب مباراة ضد مدرسة أخرى، فقال فزنا عليهم. سألته: بكم هدف؟ قال: سجلنا في مرماهم 17 هدفا. فسألته: وكم هدفا دخل مرماك؟ فقال: 12 بس وهكذا اتخذت نيابة عنه قرارا باعتزاله كرة القدم أما عن الغناء، فقد عصم الله عيالي منه بأن أعطاهم أصواتا منكرة، فكان جزاؤهم مواصلة التعليم
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك