العدد : ١٦٨٤٣ - السبت ٠٤ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٣ - السبت ٠٤ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ شوّال ١٤٤٥هـ

الثقافي

سـرديـات: اليمن: «أخبار عَبيد بن شريّة الجُرهُميّ» و«التيجان في ملوك حِمْيَر»

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ٢٤ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

يشكِّل‭ ‬كتابا‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬عَبيد‭ ‬بن‭ ‬شريّة‭ ‬الجُرهُميّ‮»‬‭ ‬و«التيجان‭ ‬في‭ ‬ملوك‭ ‬حِمْير‮»‬‭ ‬أهم‭ ‬مصدرين‭ ‬لسرديات‭ ‬اليمن‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬رغم‭ ‬تدوينهما‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬إسلاميّة‭ ‬لاحقة‭. ‬ويتخذ‭ ‬هذان‭ ‬الكتابان‭ ‬صيغة‭ ‬السرد‭ ‬البطوليّ‭ ‬والسرد‭ ‬الكونيّ‭ ‬الملحميّ‭ ‬لسير‭ ‬ملوك‭ ‬اليمن‭ (‬التبابعة‭) ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬Pre‭_‬Islamic‭. ‬ونظرًا‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬قدرٍ‭ ‬كبيرٍ‭ ‬من‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬هذين‭ ‬الكتابين‭ ‬بيّن‭ ‬بعض‭ ‬المستشرقين‭ ‬والمستعربين‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬لهما‭ ‬الخصائص‭ ‬الأسلوبيّة‭ ‬والمضمونيّة‭ ‬ذاتها‭ ‬وإلى‭ ‬احتمال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مؤلفهما‭ ‬واحدًا‭.‬

حظي‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬عًبيد‭ ‬بن‭ ‬شريّة‭ ‬الجُرهُميّ‮»‬‭ ‬ببعض‭ ‬المقاربات‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يحظَ‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬التيجان‭ ‬في‭ ‬ملوك‭ ‬حِمْير‮»‬‭ ‬سوى‭ ‬ببعض‭ ‬الدراسات‭ ‬القليلة‭ ‬جدًا‭ ‬رغم‭ ‬كون‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يقلُّ‭ ‬في‭ ‬أهميته‭ ‬الاستثنائية‭ ‬التأسيسيّة‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأخبار‮»‬،‭ ‬ورغم‭ ‬صدورهما‭ ‬معًا‭ ‬عن‭ ‬بنية‭ ‬ناظمة‭ ‬فيها‭ ‬قدر‭ ‬كبيرُ‭ ‬من‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬الخصائص‭ ‬الأسلوبيّة‭ ‬والمضمونيّة‭ ‬والثقافيّة‭. ‬ولقد‭ ‬كانت‭ ‬دراسة‭ ‬المستشرق‭ ‬الألمانّي‭ ‬فرانتز‭ ‬كرنكو‭ (‬Fritz‭ ‬Krenkow‭) ‬هي‭ ‬الدراسة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تنبَّهت‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬عَبيد‭ ‬بن‭ ‬شريّة‭ ‬الجُرهُميّ‮»‬؛‭ ‬ولكن‭ ‬كرنكو‭ ‬كان‭ ‬معنًيا‭ ‬فقط‭ ‬بإشكالية‭ ‬مؤلف‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬انشغلتْ‭ ‬المستشرقة‭ ‬الأمريكيّة‭ (‬من‭ ‬أصل‭ ‬عراقي‭) ‬نبيهة‭ ‬عبود‭ (‬Nabia‭ ‬Abbott‭) ‬في‭ ‬دراستها‭ ‬الخاصة‭ ‬بالبرديات‭ ‬الأدبيّة‭ ‬العربيّة‭ ‬بالردود‭ ‬السجاليّة‭ ‬على‭ ‬حجاجيّة‭ ‬كرنكو‭ ‬بشأن‭ ‬نفي‭ ‬الصفة‭ ‬التاريخّيّة‭ ‬لعَبيد‭ ‬بن‭ ‬شريّة‭ ‬الجُرهُميّ‭.‬

خضع‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬عَبيد‭ ‬بن‭ ‬شريّة‭ ‬الجُرهُميّ‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مقاربة‭ ‬استشراقّية‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المستشرقة‭ ‬الأمريكيّة‭ ‬إليز‭ ‬كروسبيElice‭ ‬W‭.‬Crosby‭  ‬التي‭ ‬حقّقت‭ ‬الكتاب،‭ ‬ونشرت‭ ‬حواشي‭ ‬تعليقاتها‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬مع‭ ‬مقدمة‭ ‬نقدية‭ ‬ضافية‭ ‬تحدَّثت‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬إشكالية‭ ‬المؤلف‭ ‬ومحرري‭ (‬رواة‭) ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬صيغه‭ ‬المتعددة‭. ‬كما‭ ‬ناقشتْ‭ ‬كروسبي‭ ‬أطروحتي‭ ‬كرنكو‭ ‬ونبيهة‭ ‬عبود‭ ‬بشأن‭ ‬إشكاليّة‭ ‬المؤلف‭ ‬الأصليّ‭ ‬لكتاب‭ ‬‮«‬الأخبار‮»‬،‭ ‬وتعرَّضتْ‭ ‬في‭ ‬مقاربتها‭ ‬إلى‭ ‬الأخبار‭ ‬والأشعار‭ ‬والأنساب‭ ‬الواردة‭ ‬فيه‭.‬

يتبين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الدرس‭ ‬العميق‭ ‬أنَّ‭ ‬هذين‭ ‬الكتابين‭ ‬خضعا‭ ‬إلى‭ ‬سلسلة‭ ‬متواصلة‭ ‬من‭ ‬التراكمات‭ ‬الحكائيّ‭ ‬والاختلاقات‭ ‬السردّية‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سلسلة‭ ‬معلومة‭ ‬ومجهولة‭ ‬من‭ ‬الناقلين‭ ‬والإخباريين‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عصور‭ ‬متعددة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعلهما‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكونان‭ ‬إلى‭ ‬تكوينات‭ ‬وتركيبات‭ ‬طبقيّة‭ ‬جيولوجيّة‭ ‬سردية‭ ‬متداخلة‭ ‬في‭ ‬بعضها،‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬فصلها‭ ‬وتحديد‭ ‬زمنيتها‭ ‬بدقة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الجزم‭ ‬بموثوقيتها‭ ‬وتاريخ‭ ‬تدوينها‭ ‬الحقيقيّ‭.  ‬كما‭ ‬يكشف‭ ‬التحليل‭ ‬الثقافيّ‭ ‬السرديّ‭ ‬للكتابين‭ ‬أنهما‭ ‬يصدران‭ ‬عن‭ ‬بنية‭ ‬واحدة‭ ‬ناظمة‭ ‬ومؤسسة‭ ‬لسرديات‭ ‬اليمن‭ ‬الكبرى‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولهما‭ ‬الخصائص‭ ‬الأسلوبيّة‭ ‬والمضمونيّة‭ ‬والأنساق‭ ‬الثقافية‭ ‬ذاتها‭ ‬مع‭ ‬خضوعهما‭ ‬لقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الاختلاقات‭ ‬السرديّة‭ ‬والتراكمات‭ ‬الحكائية‭ ‬خاصة‭ ‬‮«‬أسلمة‭ ‬الأسطورة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬عصور‭ ‬التدوين‭ ‬الإسلامّية‭ ‬اللاحقة‭.‬

وهناك‭ ‬خطابان‭ ‬في‭ ‬الكتابين؛‭ ‬الخطاب‭ ‬الأول‭ ‬خطاب‭ ‬سرديّ‭ ‬وشعريّ‭ ‬احتفائي‭ ‬تمجيديّ‭ ‬يحتفي‭ ‬بسرديات‭ ‬اليمن‭ ‬الكبرى‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬ويسعى‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬خطاب‭ ‬التفوق‭ ‬اليمني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خطابات‭ ‬سرديّة‭ ‬وشعرية‭ ‬‮«‬استعادية‮»‬‭ ‬وحتى‭ ‬‮«‬استباقية‮»‬‭ ‬لترسيخ‭ ‬تمثيلات‭ ‬هذا‭ ‬التفوق؛‭ ‬والخطاب‭ ‬الآخر‭ ‬ناقض‭ ‬للخطاب‭ ‬الأول‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬محو‭ ‬الخطاب‭ ‬التمجيدي‭ ‬وجعله‭ ‬يحتفي‭ ‬بنمط‭ ‬آخر‭ ‬ناقض‭ ‬له‭ (‬مُضر‭ ‬التي‭ ‬ستنقض‭ ‬أمجاد‭ ‬اليمنيين‭) ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬دينيّ‭.‬

كما‭ ‬تكشف‭ ‬المقاربة‭ ‬السردية‭ ‬الثقافية‭ ‬الموازنة‭ ‬عن‭ ‬تمّيز‭ ‬طبيعة‭ ‬خطاب‭ ‬هذين‭ ‬الكتابين‭ ‬بخصائص‭ ‬سردية‭ ‬ثقافية‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬مغايرة‭ ‬لسرديات‭ ‬عصر‭ ‬التدوين‭ ‬الأكبر،‭ ‬مطلع‭ ‬العصر‭ ‬العبّاسي،‭ ‬ومنها‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالطابع‭ ‬الملحميّ‭ ‬الكونيّ‭ ‬في‭ ‬التبئير‭ ‬والشخوص‭ ‬والزمن‭ ‬والمكان‭ ‬وبصناعة‭ ‬البطل‭ ‬الملحميّ‭ ‬الرمزيّ‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذان‭ ‬الكتابان‭ ‬كتابين‭ ‬تأسيسيين‭ ‬مؤثرين‭ ‬وملهمين‭ ‬في‭ ‬تخلّق‭ ‬مدوَّنة‭ ‬أدبية‭ ‬كبرى‭ ‬احتفت‭ ‬بسرديات‭ ‬اليمن‭ ‬شعرًا‭ ‬ونثرًا‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬اللاحقة‭ ‬مثل‭ ‬سيرة‭ ‬سيف‭ ‬بن‭ ‬ذي‭ ‬يزن‭ ‬و«قصة‭ ‬فتوح‭ ‬اليمن‭ ‬الكبرى‭ ‬المسماة‭ ‬رأس‭ ‬الغول‮»‬‭ ‬و«القصيدة‭ ‬الحميرية‮»‬‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬الإكليل‭ ‬للهمدانيّ‮»‬‭ ‬وغيرها‭.‬

 

{ ‭ ‬أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيَّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا