يشكِّل كتابا «أخبار عَبيد بن شريّة الجُرهُميّ» و«التيجان في ملوك حِمْير» أهم مصدرين لسرديات اليمن في عصر ما قبل الإسلام رغم تدوينهما في عصور إسلاميّة لاحقة. ويتخذ هذان الكتابان صيغة السرد البطوليّ والسرد الكونيّ الملحميّ لسير ملوك اليمن (التبابعة) قبل الإسلام Pre_Islamic. ونظرًا إلى وجود قدرٍ كبيرٍ من التشابه في بنية هذين الكتابين بيّن بعض المستشرقين والمستعربين إلى أنَّ لهما الخصائص الأسلوبيّة والمضمونيّة ذاتها وإلى احتمال أن يكون مؤلفهما واحدًا.
حظي كتاب «أخبار عًبيد بن شريّة الجُرهُميّ» ببعض المقاربات النقدية في حين لم يحظَ كتاب «التيجان في ملوك حِمْير» سوى ببعض الدراسات القليلة جدًا رغم كون هذا الكتاب لا يقلُّ في أهميته الاستثنائية التأسيسيّة عن كتاب «الأخبار»، ورغم صدورهما معًا عن بنية ناظمة فيها قدر كبيرُ من التشابه في الخصائص الأسلوبيّة والمضمونيّة والثقافيّة. ولقد كانت دراسة المستشرق الألمانّي فرانتز كرنكو (Fritz Krenkow) هي الدراسة الأولى التي تنبَّهت إلى كتاب «أخبار عَبيد بن شريّة الجُرهُميّ»؛ ولكن كرنكو كان معنًيا فقط بإشكالية مؤلف هذا الكتاب في حين انشغلتْ المستشرقة الأمريكيّة (من أصل عراقي) نبيهة عبود (Nabia Abbott) في دراستها الخاصة بالبرديات الأدبيّة العربيّة بالردود السجاليّة على حجاجيّة كرنكو بشأن نفي الصفة التاريخّيّة لعَبيد بن شريّة الجُرهُميّ.
خضع كتاب «أخبار عَبيد بن شريّة الجُرهُميّ» إلى مقاربة استشراقّية أخرى من قبل المستشرقة الأمريكيّة إليز كروسبيElice W.Crosby التي حقّقت الكتاب، ونشرت حواشي تعليقاتها باللغة الإنجليزية مع مقدمة نقدية ضافية تحدَّثت فيها عن إشكالية المؤلف ومحرري (رواة) هذا الكتاب في صيغه المتعددة. كما ناقشتْ كروسبي أطروحتي كرنكو ونبيهة عبود بشأن إشكاليّة المؤلف الأصليّ لكتاب «الأخبار»، وتعرَّضتْ في مقاربتها إلى الأخبار والأشعار والأنساب الواردة فيه.
يتبين من خلال الدرس العميق أنَّ هذين الكتابين خضعا إلى سلسلة متواصلة من التراكمات الحكائيّ والاختلاقات السردّية الكبرى من خلال سلسلة معلومة ومجهولة من الناقلين والإخباريين على مدى عصور متعددة، الأمر الذي جعلهما أقرب ما يكونان إلى تكوينات وتركيبات طبقيّة جيولوجيّة سردية متداخلة في بعضها، من الصعب فصلها وتحديد زمنيتها بدقة، أو حتى الجزم بموثوقيتها وتاريخ تدوينها الحقيقيّ. كما يكشف التحليل الثقافيّ السرديّ للكتابين أنهما يصدران عن بنية واحدة ناظمة ومؤسسة لسرديات اليمن الكبرى قبل الإسلام، ولهما الخصائص الأسلوبيّة والمضمونيّة والأنساق الثقافية ذاتها مع خضوعهما لقدر كبير من الاختلاقات السرديّة والتراكمات الحكائية خاصة «أسلمة الأسطورة» التي أحدثتها عصور التدوين الإسلامّية اللاحقة.
وهناك خطابان في الكتابين؛ الخطاب الأول خطاب سرديّ وشعريّ احتفائي تمجيديّ يحتفي بسرديات اليمن الكبرى قبل الإسلام، ويسعى إلى ترسيخ خطاب التفوق اليمني من خلال خطابات سرديّة وشعرية «استعادية» وحتى «استباقية» لترسيخ تمثيلات هذا التفوق؛ والخطاب الآخر ناقض للخطاب الأول يعمل على محو الخطاب التمجيدي وجعله يحتفي بنمط آخر ناقض له (مُضر التي ستنقض أمجاد اليمنيين) التي تأتي في سياق دينيّ.
كما تكشف المقاربة السردية الثقافية الموازنة عن تمّيز طبيعة خطاب هذين الكتابين بخصائص سردية ثقافية ذات طبيعة مغايرة لسرديات عصر التدوين الأكبر، مطلع العصر العبّاسي، ومنها الاحتفاء بالطابع الملحميّ الكونيّ في التبئير والشخوص والزمن والمكان وبصناعة البطل الملحميّ الرمزيّ. وقد كان هذان الكتابان كتابين تأسيسيين مؤثرين وملهمين في تخلّق مدوَّنة أدبية كبرى احتفت بسرديات اليمن شعرًا ونثرًا في العصور اللاحقة مثل سيرة سيف بن ذي يزن و«قصة فتوح اليمن الكبرى المسماة رأس الغول» و«القصيدة الحميرية» وكتاب «الإكليل للهمدانيّ» وغيرها.
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيَّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك