أثارت ردود أفعال الحكومات الغربية، وبالأخص الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، على الحرب في غزة، استنكارًا واسعًا؛ محليًا وعالميًا، حيث انتقد مسؤولو الشؤون الخارجية الغربيون سياسيات حكوماتهم، بشأن الاستمرار في دعم إسرائيل؛ سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا، ودبلوماسيا، على الرغم من جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، التي ترتكبها، والتي أسفرت عن استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وتشريد الملايين، وتدمير قطاع غزة.
ومن المعلوم أن الدول الغربية اتخذت إجراءات لحماية إسرائيل من الانتقادات الدولية الموجهة إليها، حيث استخدمت حق النقض الفيتو في مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، وظهر ذلك جليا عندما عجزت عن كبح انتقادات محكمة العدل الدولية، لها بوجوب اتخاذ إجراءات تمنع حدوث إبادة جماعية؛ فلجأت هذه الدول إلى إضعاف الثقة بقرارات المحكمة، وتقويض شرعيتها مثل ادعاء الخارجية الأمريكية، بأن الدعوى لا أساس لها من الصحة، وأنها قضية تحريضية. واستمرارا، أعلنت واشنطن، وحلفاؤها وقف تمويلهم لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)؛ وهو الأمر الذي لقي انتقادات شديدة من قبل المنظمات الحقوقية، ونشطاء حقوق الإنسان.
وبعد مرور ما يقرب من خمسة أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة، استمرت المظاهرات في جميع أنحاء العالم؛ بسبب تقاعس حكومات كل من واشنطن، ولندن، وبروكسل، عن محاسبة إسرائيل، والضغط عليها لإنهاء الحرب، حيث تجاهلوا الاحتجاجات الجماهيرية التي قام بها مواطنوها، والتي منها مسيرة لأكثر من 10.000 شخص في لندن، وإدنبره، يوم 3 فبراير 2024.
ومع تغاضي القادة الغربيين عن انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، تم تسجيل استياء واسع النطاق داخل حكوماتهم، وخاصة من وزارات خارجيتهم، التي تم تجاهل كبار مسؤوليها ومستشاريها لصالح السياسات والقوى الأيديولوجية. وانعكاسًا لهذا النهج، وقع أكثر من 800 مسؤول بارز من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، على وثيقة باسم رسالة عبر الأطلسي، يوم 2/2/2024، تتضمن انتقادات لاذعة للسياسات الغربية تجاه الحرب المستمرة في قطاع غزة والأراضي المحتلة، واتهموا حكوماتهم بالتواطؤ المباشر في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحالي، من خلال السماح لإسرائيل بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية.
وعلى الرغم من أن بعض الوزراء وكبار المسؤولين الغربيين، قد استقالوا بالفعل من مناصبهم؛ احتجاجًا على دعم حكوماتهم لإسرائيل؛ فقد أوضح نيك بوبلي، في مجلة تايم، أن هذه الوثيقة تمثل أول معارضة منسقة منذ بدء الحرب، مشيرا إلى تأثير سوء إدارة الدول الغربية الرئيسية على وحدة مؤسساتها الحكومية.
وبشكل واضح، أدانت الوثيقة دعم الدول الأوروبية الواضح والمطلق لإسرائيل، والذي أسفر عن استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين، وهو الأمر الذي كان من الممكن تجنبه، فيما انتقدت بشكل أساسي أدوار كل من واشنطن، ولندن، وبروكسل؛ لدعمهم القوي لقوات الاحتلال التي اعتبروها مسؤولة عن المنع المتعمد للمساعدات، وما يترتب عليه من تعريض آلاف المدنيين لخطر المجاعة والموت البطيء، مشيرين إلى الخطر الذي تواجهه حكومات الغرب لكونهم يساهمون في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، وجرائم الحرب، وحتى التطهير العرقي، أو الإبادة الجماعية من خلال استمرارهم في تسليح إسرائيل، وتوفير إدارة بايدن، تحديدا القنابل غير الموجهة المستخدمة ضد غزة، وتعمدها تجاوز الكونجرس الأمريكي، لتقديم المزيد من الذخائر لحليفته.
ومن المهم التأكيد أن تلك الوثيقة ليست الحالة الأولى التي يعبر فيها مسؤولون وموظفون في الحكومات الغربية عن اعتراضاتهم القوية على السياسات الداعمة لإسرائيل. وأوضح توم بيتمان، من شبكة بي بي سي، أن هذا دلالة على تنامي المعارضة داخل الحكومات الغربية الحليفة لإسرائيل. وأشار روبي جرامر، في مجلة فورين بوليسي، إلى أن عاصفة متنامية من المعارضة تشكلت بين الدبلوماسيين الأمريكيين عندما شرع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في أولى جولاته العديدة الفاشلة في الشرق الأوسط، حيث شعروا بالغضب والصدمة واليأس؛ بسبب إعطاء واشنطن لإسرائيل الضوء الأخضر لقصف غزة.
وفي الإطار ذاته، أرسل أكثر من 500 موظف من 40 وكالة حكومية أمريكية في نوفمبر 2023، رسالة مشتركة إلى بايدن، ينتقدون فيها سياسته في الشرق الأوسط، كما وقع 1000 موظف آخر داخل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، على رسالة أخرى تحث البيت الأبيض، على دعم وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة، مستشهدين بالانتهاكات العديدة للقانون الدولي التي ترتكبها إسرائيل، واستهدافها المتعمد للمدارس، والمستشفيات، وأماكن العبادة، كأسباب حتى تتراجع واشنطن عن سياساتها.
ومع ذلك، تمت الإشارة إلى أنه طيلة هذه الأزمة تم تجاهل الولايات المتحدة، وأوروبا، نصيحة خبراء السياسة الخارجية بشأن الشرق الأوسط. وتم تخصيص جزء من الرسالة عبر الأطلسي، لاتهام كبار صناع القرار السياسي الغربي بتجاهل تحذيرات مستشاريهم لما ينطوي عليه دعمهم المستمر لإسرائيل من مخاطر قصيرة وطويلة الأجل. ونقلت شبكة بي بي سي، عن مسؤول أمريكي بارز، شكواه من الرفض الدائم لآرائهم، وعدم الإنصات للعارفين بكُنه المنطقة وديناميكياتها، وبدلاً من ذلك، حلت محلها أصوات تتبنى اعتبارات سياسية وأيديولوجية. وفي أكتوبر2023، احتج جوش بول -مسؤول سابق في الخارجية الأمريكية، والمستقيل من إدارة بايدن- على نقل الولايات المتحدة المتصاعد للأسلحة إلى إسرائيل مع العلم باستخدامها ضد أهداف مدنية في غزة.. متسائلا كيف أن عملية صنع القرار في واشنطن وحلفائها، قد خلقت توترات غير مسبوقة مع الخبرة والواجب الذي يتحمله موظفو الخدمة المدنية.
وعليه، وصف دبلوماسيون سابقون هذا المستوى من المعارضة بأنه غير مسبوق. ورأى روبرت فورد، السفير الأمريكي السابق في سوريا، أن اعتراضات السياسيين والدبلوماسيين الحكوميين الغربيين؛ -ردا على سياسات حكومتهم تجاه ما يحدث في غزة- تعد فريدة من نوعها، بالنظر لخبرته الممتدة على مدار أربعين عاما، مضيفا إلى شعورهم باضطرارهم للإفصاح عن مخاوفهم الخطيرة.
وعلى الرغم من ذلك، تظل الضغوط السياسية داخل وزارات خارجية الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، قوية لكبح المزيد من الأصوات المعارضة. وأشار إدوارد وونج، وماتينا جريدنيف، في صحيفة نيويورك تايمز، إلى أن الرسالة عبر الأطلسي، لم تحمل أسماء للموقعين عليها، نظرا إلى الخوف من التنكيل بهم من قبل إداراتهم.
ومع ذلك، فإن الضرورة الأخلاقية للتحدث علنًا، وأهمية التعبير عن الرفض قد تم تأكيدها من قبل بربر فان دير فودي، الدبلوماسية السابقة بالخارجية الهولندية، والتي أضحت الآن صوتًا مؤيدًا للفلسطينيين في بلادها، والتي علقت بالقول: إن كونك موظفًا حكوميًا لا يعفيك من مسؤوليتك في الاستمرار في التفكير، وأنه عندما يصدر النظام قرارات أو أفعالا فاسدة، فإن مسؤولية إيقافها تقع على عاتقنا. فيما تحدثت جينا أبركرومبي وينستانلي، الدبلوماسية الأمريكية السابقة، عن كيف لا يُمكن أن تتوقع من أي شخص في وزارة الخارجية أن يكون سعيدًا بعدم الاعتداد برأيه عندما يكون الحقل الدبلوماسي هو مجال عمله.
وبالتوازي مع الحاجة إلى انتقاد السياسات اللاأخلاقية الغربية، سلطت الوثيقة، الضوء على كيف أن دعم الغرب الحالي لإسرائيل، يعد أيضًا خطأ استراتيجيًا كبيرًا، حيث أشارت إلى كيفية إضعاف السياسات الآنية لموقف الحكومات الغربية الأخلاقي، وتقويض قدرتهم في الدفاع عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان بالعالم. ووافق بول، على أن الدعم الأحادي الجانب لفظائع إسرائيل في غزة، وتعامي الغرب عن الإنسانية الفلسطينية؛ يُعدان فشلاً أخلاقياً وسياسياً، بالنظر إلى الكيفية التي سيؤدي بها ذلك إلى تقويض مصالحهم في الخارج سنوات قادمة.
وفيما يتعلق بما ينبغي القيام به لإصلاح الضرر الذي خلفته السياسات الغربية خلال الحرب في غزة، أوضحت الرسالة عبر الأطلسي، أن الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي تقدمه واشنطن، وحلفاؤها لإسرائيل دون شروط حقيقية، أو مساءلة، يجب أن يتوقف. فيما انضم الموقعون إلى قائمة متزايدة من الأفراد والجماعات التي تدعو الزعماء الغربيين إلى استخدام كل النفوذ المتاح -بما في ذلك وقف الدعم العسكري- لتأمين وقف دائم لإطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية بشكل كامل إلى غزة.
وكما أوضح هوارد فرينش، في مجلة فورين بوليسي، فإنه على الرغم من إرسال الولايات المتحدة، 158 مليار دولار إلى إسرائيل بين عامي 1948 ومارس 2023، كمساعدات عسكرية، وبالتالي تزويدها بـواحدة من أكثر القوات المسلحة قدرة ليس في الشرق الأوسط فقط، لكن في العالم أيضًا، فقد دفعت إدارة بايدن، بمزيد من عمليات نقل الأسلحة بعد 7 أكتوبر2023، وهو أمر يستوجب إثارة المزيد من الدهشة، خاصة أنها، لم تذكر أي سبب ضروري لذلك.
ونتيجة لذلك، تصاعدت الدعوة إلى تقليص المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل من أجل كبح عدوانها على المدنيين الفلسطينيين. ودعا ديلان ويليامز، من مركز السياسة الدولية، البيت الأبيض، إلى إصدار التزامات محددة، لمنع استخدام أسلحته ضد المدنيين. ورأى بيرني ساندرز، المرشح الرئاسي الأمريكي السابق، أن دور واشنطن في تسليح إسرائيل، يرقى إلى مستوى التواطؤ، مع ما ألحقته الأخيرة من قتل ودمار في غزة.
على العموم، فإنه على الرغم من الضغوط المتزايدة، سواء داخل الحكومة أو الحزب الديمقراطي، لم تبدو أي مؤشرات من إدارة بايدن، وحلفائها لتغيير دعمهم المستمر لإسرائيل، حتى إن بايدن، نفسه صرح في ديسمبر 2023، بعدم اكتراثه بشيء آخر غير حماية إسرائيل. وبينما اعترف وزير دفاعه لويد أوستن -في الشهر ذاته- باحتمالية تعرض إسرائيل لـهزيمة استراتيجية، جراء وحشية معاملتها للمدنيين الفلسطينيين؛ فإن الرفض المستمر من إدارته وحلفائها الغربيين لوقف الحرب، جعل منهم شركاء في هذه الأزمة، وخاصة مع تواطؤهم في تمويل وتسليح وحماية إسرائيل دبلوماسيا، وهو الأمر الذي أصبح معترفا به دوليا، وتعالت الأصوات بإدانته حتى داخل وزارات خارجيتهم.
وفي حين يعتقد هوارد فرينش، أن الحرب في غزة، كانت بمثابة لحظة جيدة للقادة الغربيين؛ لإعادة النظر في طبيعة وهدف القوة الأمريكية في العالم، إلا أنهم تجاهلوا بوضوح نصيحة المسؤولين ذوي الخبرة داخل وزارات خارجيتهم، واختارا اتباع المنطق السياسي والأيديولوجي، ما جعلهم مسؤولين عن الفشل الأخلاقي، والضرر الهائل بالسمعة الذي لحق بهم، جراء الإخفاق في منع الكارثة الإنسانية، التي يكابدها الملايين من المدنيين الفلسطينيين في غزة، فضلا عن تسهيل معاناتهم عبر دعمهم الثابت لأهداف الحرب الإسرائيلية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك