العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

ملاحظات بشأن محاكمة إسرائيل دوليًّا

بقلم: د. زياد بهاء الدين

الثلاثاء ١٣ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

أبطال‭ ‬المواجهة‭ ‬القانونية‭ ‬في‭ ‬لاهاي‭ ‬كانوا‭ ‬أعضاء‭ ‬الفريق‭ ‬القانوني‭ ‬لدولة‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬التي‭ ‬فاجأتنا‭ ‬جميعًا‭- ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭- ‬برفع‭ ‬دعوى‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬لإثبات‭ ‬ارتكابها‭ ‬جريمة‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬ضد‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬بالمخالفة‭ ‬لالتزاماتها‭ ‬الدولية،‭ ‬والمطالبة‭ ‬بوقف‭ ‬العدوان‭ ‬فورًا‭.‬

السؤال‭ ‬الذي‭ ‬طرحه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬وأتصور‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬الكثيرين‭: ‬ما‭ ‬الجدوى‭ ‬من‭ ‬المحاكمة؟،‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تسفر‭ ‬عن‭ ‬إدانة‭ ‬إسرائيل؟،‭ ‬وهل‭ ‬لدى‭ ‬المحكمة‭ ‬سلطة‭ ‬تنفيذ‭ ‬حكمها‭ ‬بشكل‭ ‬ملموس‭ ‬وعملي،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬المسألة‭ ‬كلها‭ ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سجالًا‭ ‬سياسيًّا‭ ‬أقصى‭ ‬غاياته‭ ‬تسجيل‭ ‬موقف‭ ‬إعلامي‭ ‬وأخلاقي‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل،‭ ‬بينما‭ ‬العدوان‭ ‬والقتل‭ ‬مستمران؟‭.‬

وللرد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬توضيح‭ ‬بعض‭ ‬الحقائق‭ ‬الرئيسية‭ ‬عن‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭ ‬وما‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬صلاحيات‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬توقعاتنا‭ ‬في‭ ‬محلها،‭ ‬فلا‭ ‬نمعن‭ ‬في‭ ‬التفاؤل،‭ ‬ولا‭ ‬نهدر‭ ‬قيمة‭ ‬المحاكمة‭ ‬بالكامل‭.‬

محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لاهاي‭ ‬بهولندا‭ ‬هي‭ ‬الجهاز‭ ‬القضائي‭ ‬الرئيسي‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬وقد‭ ‬أُنشئت‭ ‬بموجب‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬الموقع‭ ‬في‭ ‬26‭ ‬يونيو‭ ‬1945،‭ ‬وبدأت‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬وعُرضت‭ ‬عليها‭ ‬أول‭ ‬دعوى‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬1947‭. ‬ومنذ‭ ‬نشأتها‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬لم‭ ‬يُقيد‭ ‬أمامها‭ ‬إلا‭ ‬192‭ ‬دعوى‭.‬

وأهم‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬هذه‭ ‬المحكمة‭ ‬أمران‭: ‬الأول‭ ‬أنها‭ ‬تختص‭ ‬بالدعاوى‭ ‬المرفوعة‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬فقط‭ ‬وليس‭ ‬الأفراد،‭ ‬ولهذا‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬المسؤولون‭ ‬الحكوميون‭ ‬أو‭ ‬الأفراد‭ ‬عمومًا‭ ‬أطرافًا‭ ‬في‭ ‬الدعاوى‭ ‬المرفوعة‭ ‬أمامها،‭ ‬بل‭ ‬الدول‭ ‬المتهمة‭ ‬بخرق‭ ‬قواعد‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬والمعاهدات‭ ‬الدولية‭. ‬أما‭ ‬الأمر‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬يميزها‭ ‬فكونها‭ ‬بمثابة‭ ‬محكمة‭ ‬مدنية‭ ‬وليست‭ ‬لها‭ ‬أي‭ ‬ولاية‭ ‬قضائية‭ ‬جنائية،‭ (‬هذا‭ ‬الاختصاص‭ ‬لمحاكم‭ ‬أخرى،‭ ‬أشهرها‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭).‬

الدعوى‭ ‬المرفوعة‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬تنسب‭ ‬إلى‭ ‬إسرائيل‭ ‬ارتكاب‭ ‬جريمة‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬Genocide،‭ ‬وهي‭ ‬أخطر‭ ‬جريمة‭ ‬في‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭. ‬وقد‭ ‬صك‭ ‬المصطلح‭ ‬المحامي‭ ‬اليهودي‭ ‬البولندي‭ ‬‮«‬رافاييل‭ ‬لامكين‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1943‭- ‬ويعني‭ ‬حرفيًّا‭ ‬‮«‬القتل‭ ‬الجماعي‮»‬‭- ‬لوصف‭ ‬مذابح‭ ‬النازية‭ ‬لليهود‭. ‬وقد‭ ‬أسفرت‭ ‬جهوده‭ ‬عن‭ ‬صدور‭ ‬اتفاقية‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬عام‭ ‬1948،‭ (‬والنافذة‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬1951‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬عرفت‭ ‬في‭ ‬مادتها‭ ‬الثانية‭ ‬هذه‭ ‬الجريمة‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬الأفعال‭ ‬التي‭ ‬تُرتكب‭ ‬بنية‭ ‬القضاء‭ ‬الكلي‭ ‬أو‭ ‬الجزئي‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬وطنية‭ ‬أو‭ ‬إثنية‭ ‬أو‭ ‬عرقية‭ ‬أو‭ ‬دينية‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‮»‬‭.‬

ولأن‭ ‬المحكمة‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬مدنية‭ ‬لا‭ ‬جنائية،‭ ‬فإن‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬لا‭ ‬تدّعِي‭ ‬على‭ ‬إسرائيل‭ ‬جنائيًّا،‭ ‬بل‭ ‬تنسب‭ ‬إليها‭ ‬مخالفة‭ ‬التزاماتها‭ ‬الدولية‭ ‬وفقًا‭ ‬للاتفاقية‭ ‬التي‭ ‬تحظر‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية،‭ ‬وتطالب‭ ‬المحكمة‭ ‬موضوعيًّا‭ ‬بإصدار‭ ‬حكم‭ ‬بذلك،‭ ‬وفي‭ ‬شق‭ ‬عاجل‭ ‬بإصدار‭ ‬قرار‭ ‬بوقف‭ ‬العدوان‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭. ‬ووفقًا‭ ‬للمتعارف‭ ‬عليه،‭ ‬فإن‭ ‬الأرجح‭ ‬أن‭ ‬صدور‭ ‬الحكم‭ ‬الموضوعي‭ ‬قد‭ ‬يستغرق‭ ‬سنوات‭ ‬أمام‭ ‬المحكمة‭. ‬أما‭ ‬الطلب‭ ‬العاجل‭ ‬بوقف‭ ‬العدوان،‭ ‬فكان‭ ‬متوقعا‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬القرار‭ ‬بشأنه‭ ‬خلال‭ ‬أسابيع‭ ‬قليلة‭. ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تم‭ ‬إصدار‭ ‬الحكم‭ ‬العاجل‭ ‬بوقف‭ ‬العدوان‭ ‬فلن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬فعلي‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬يلزم‭ ‬إسرائيل‭ ‬باحترامه،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مثلًا‭ ‬مع‭ ‬الحكم‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬المحكمة‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬2022‭ ‬بوقف‭ ‬العدوان‭ ‬الروسي‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬وتجاهلته‭ ‬روسيا‭ ‬كأن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭.‬

إلى‭ ‬هنا‭ ‬ينتهي‭ ‬الوصف‭ ‬المختصر‭ ‬للوضع‭ ‬القانوني‭ ‬للمحكمة،‭ ‬وأشكر‭ ‬الزميلة‭ ‬الدكتورة‭ ‬رنا‭ ‬القهوجي،‭ ‬المدرس‭ ‬بقسم‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬بجامعة‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬على‭ ‬نشرها‭ ‬مساهمة‭ ‬قانونية‭ ‬لتبسيط‭ ‬الموضوع‭.‬

ولكن‭ ‬هل‭ ‬معنى‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها،‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬مجرد‭ ‬استعراض‭ ‬تلفزيوني؟‭. ‬بالتأكيد‭ ‬لا،‭ ‬بل‭ ‬لها‭ ‬قيمة‭ ‬وأثر‭ ‬كبيران،‭ ‬وذلك‭ ‬للأسباب‭ ‬التالية‭:‬

أولًا‭: ‬لأن‭ ‬مجرد‭ ‬انعقاد‭ ‬المحكمة‭ ‬وطلب‭ ‬إثبات‭ ‬ارتكاب‭ ‬جريمة‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬وتقديم‭ ‬الملف‭ ‬والمرافعات‭ ‬المؤيدة‭ ‬له‭ ‬أفسح‭ ‬المجال‭ ‬لطرح‭ ‬الموضوع‭ ‬وتوثيقه‭ ‬رسميًّا‭ ‬وعرض‭ ‬الأدلة‭ ‬المؤيدة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬بشكل‭ ‬يتجاوز‭ ‬في‭ ‬مصداقيته‭ ‬ما‭ ‬للإعلام‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭.‬

ثانيًا‭: ‬لأن‭ ‬إسرائيل‭ ‬ذاتها‭ ‬واعية‭ ‬بأهمية‭ ‬وخطورة‭ ‬الموضوع‭ ‬لما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬سياسي‭ ‬وإعلامي‭ ‬خطير‭. ‬ويدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬مثولها‭ ‬أمام‭ ‬المحكمة،‭ ‬دون‭ ‬تحفظ،‭ ‬واستعانتها‭ ‬بأحد‭ ‬عمالقة‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ (‬مالكولم‭ ‬شو‭)‬،‭ ‬وتقديم‭ ‬الدفوع‭ ‬لإثبات‭ ‬عدم‭ ‬مخالفتها‭ ‬الاتفاقية‭ ‬الدولية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالإبادة‭ ‬الجماعية،‭ ‬إدراكًا‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬لحظة‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬المسؤولية‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والسياسية،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لها‭ ‬أبعاد‭ ‬عملية‭.‬

ثالثًا‭: ‬لأن‭ ‬ثبوت‭ ‬حكم‭ ‬مدني‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يدعم‭ ‬موقف‭ ‬ضحايا‭ ‬عدوانها‭ ‬المتقدمين‭ ‬بدعاوى‭ ‬أخرى‭ ‬جنائية‭- ‬أمام‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية،‭ ‬التي‭ ‬يمثل‭ ‬أمامها‭ ‬الأفراد‭ ‬لا‭ ‬الدول‭- ‬وللمطالبة‭ ‬بتعويضات‭ ‬لاحقًا‭.‬

خلاصة‭ ‬الكلام‭ ‬أن‭ ‬المحاكمة‭ ‬الجارية‭ ‬لإسرائيل‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يُرجح‭ ‬إطلاقًا‭ ‬أن‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الأليم‭ ‬الذي‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬توقف‭ ‬العدوان‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬خطوة‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬تثبيت‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل،‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬نفسها‭ ‬ممثلة‭ ‬لضحايا‭ ‬أكبر‭ ‬جريمة‭ ‬إبادة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬النازية،‭ ‬صارت‭ ‬بعد‭ ‬ستين‭ ‬عامًا‭ ‬المرتكب‭ ‬الأكبر‭ ‬لذات‭ ‬الجريمة‭ ‬وهي‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬ضد‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬فشكرًا‭ ‬يا‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا‭!‬

{ خبير‭ ‬قانوني‭ ‬واقتصادي‭ ‬

ووزير‭ ‬مصري‭ ‬سابق

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا