زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عملٌ منسيٌّ للطيب صالح (1)
ربطني بالروائي السوداني الطيب صالح ود قوي على الصعيد الشخصي، وجالسته طويلا عديد المرات، وذات مرة قال لي ما معناه إنه يتعجب لأن روايته موسم الهجرة الى الشمال لاقت من الاستحسان ما لم تنله رواية بندر شاه، مما يعني أن الطيب صالح ان بندر شاه كانت الأقرب الى قلبه، وعاش الطيب معظم سنوات حياته في بريطانيا، فقد غادر وطنه شابا يافعا غض العود، والتحق بإذاعة بي بي سي العربية، وهناك تفتحت مواهبه بفضل عصامية حملته على النهل من ينابيع المعرفة، فأجاد اللغة الإنجليزية، ووجد فيها جسرا يفضي إلى بحار من الفنون والآداب والعلوم المتلاطمة. ورغم أن الطيب باعترافه انغمس في أجواء الثقافة البريطانية، وتعلق بالآداب الإنجليزية وأغرم بشعراء ذلك البلد، وصار – وهو القروي العربيقي، أي العربي – الإفريقي يتذوق الأوبرا والباليه، فإنه ازداد تمسكا بثقافته الإسلامية – العربية، فعندما وصل إلى تلك النقطة التي يكاد فيها الإنسان المهاجر من وطنه أن ينسى لسانه الأصلي، بعد أن صار يرطن باقتدار بلغة بلد المهجر، قرر الطيب صالح أن يتحصن بجذوره فالتفت إلى الآداب والفنون العربية وقرأ وهو في بريطانيا أمهات كتب التراث العربي والإسلامي، ومن يقرأ للطيب صالح أو يستمع إليه متحدثا في منبر، يعجب كيف تسنى لشخص عاش أكثر من نصف قرن في بريطانيا، أن يكون ملما بشتى مكونات الثقافة العربية، ولعل لحبه الشديد لشعر أبي الطيب المتنبي دورا في صقل لسانه وإكسابه فصاحة وجزالة تبدو شديدة الوضوح في رواية موسم الهجرة إلى الشمال التي احتفى فيها الطيب بـ«اللغة» احتفاء شديدا!
وكثيرون يحبون الطيب صالح لأنهم قرأوا له أو استمعوا إليه، لكنني أحبه فوق ذلك كله لأنني كما أسلفت عرفته عن قرب، وسعدت بتواضعه ونهلت من ثقافته الموسوعية وبكونه «ابن بلد» بسيطا، وصاحب دعابة رفيعة، نهل من الثقافة البريطانية دون أن يفقد أصالته القروية، ومن ثم كان إذا ضحك يرتج جسمه كله، كما يفعل البسطاء الذين يتكلمون ويضحكون ويعطسون بعفوية.
وإذا لم تقرأ له كتابه عن «منسي» فنص عمرك ضاع، وبما أن العربي يولد ونص عمره ضائع – مجازا – فأنت ميت إذا لم تكن قد قرأت الكتاب (حاول أن تتذكر كم مرة قيل لك إن نصف عمرك ضاع لأنك لم تفعل أو تشهد أمرا، وسيخيل إليك أنك كائن بألف روح: ما شفت الفيلم؟ نص عمرك ضاع! ما رحت بانكوك؟ نص عمرك ضاع! ما أكلت فول في مطعم الحمار الذهبي؟ نص عمرك ضاع! ما شفت سيارتي الجديدة؟ نص عمرك ضاع.. هل «النصف» في العالم غير النصف المعروف في علم الحساب؟).
منسي شخصية حقيقة، مصري انتقل إلى بريطانيا في أول خمسينيات القرن الماضي، وكان «فلتة»، فقد كان مسيحيا قبطيا، ومات تاركا وراءه عيالا بعضهم مسلم وبعضهم مسيحي! وكان شخصا فهلويا ومستهبلا وفوضويا. قرر فجأة اعتناق الإسلام بل وهاجر من بريطانيا إلى أمريكا وأسس إذاعة محلية تدعو إلى الإسلام، وكان يحلو له أن يقول للطيب صالح ان العشرات أسلموا على يديه، ثم يسأل الطيب: وأنت كم واحد دخلوا الإسلام على إيدك يا صاحبي؟ ومع هذا، ولأنه كان لا يستقر في مكان واحد، فات عليه أن يدخل عياله من زوجته الأولى الإسلام.
كان منسي يتقن الإنجليزية أكثر من أهلها وعمل حمالا ومترجما وممثلا ومدرسا، واستطاع بفهلوته أن يصبح طرفا في مناظرة حول القضية الفلسطينية في مواجهة النائب عن حزب العمال البريطاني ريتشارد كروسمان الذي كان يناصر إسرائيل بقوة، ولم يكن منسي يعرف عن قضية فلسطين أكثر مما يعرفه عنها شعبولا، وفي الطريق إلى مكان انعقاد الندوة طلب من الطيب صالح: بسرعة قول لي شوية حاجات عن فلسطين.. هو أصل الحكاية إيه؟ وعد بلفور والحاجات دي.. وزوده الطيب بطراطيش كلام عن جذور المسألة، ووقف منسي على المنصة، ومسح بكروسمان الأرض وحاز إعجاب الحضور.
ابحثوا عن كتاب «منسي شخص نادر على طريقته» واستمتعوا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك