للتأكيد، فإنه على مر التاريخ كانت العلوم والتكنولوجيا من أهم أدوات النهضة والتمكين في العالم الذي نعيش فيه. كما أن امتلاك المعرفة والتكنولوجيا يعد سببا أصيلا للقوة الاقتصادية والاحترام الدولي. إن العلماء والباحثين في المؤسسات العلمية والتكنولوجية بمختلف اختصاصاتهم هم المصدر الأساس لتلك المعرفة، فهم يعملون ليل – نهار في موضوعات كثيرة وعميقة في جميع مجالات العلوم الحديثة بالبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار للوصول الى تلك المعرفة وتطبيقها. وهؤلاء العلماء هم أنفسهم الأفراد الذين استثمرت فيهم الدول أموالها وإمكانياتها المادية والمعنوية ليتفرغوا من أجل بناء قدراتهم وتسخيرها لخدمة المجتمع وتطويره وتنميته. ثم إنهم ثروة حقيقية يلزم الحفاظ عليها وتمكينها من القيام بدورها الفاعل والمؤثر في بيئة صالحة آمنة.
لكن يد الغدر والحقد الإسرائيلي نالت من البشر والحجر، ولم تميز في عدوانها على غزة بين من يحمل القلم ومن يحمل السلاح. لذلك نعزي أنفسنا قبل أن نعزي المجتمع العلمي العربي والعالمي في استشهاد عضو المؤسسة الأستاذ الدكتور سفيان عبدالرحمن عثمان تايه (أبو أسامة؛ 20 أغسطس 1971–2 ديسمبر 2023) وعائلته في غارة جوية على منزله، فهو أكاديمي ورئيس الجامعة الإسلامية في غزة، وكان أحد الباحثين الرواد على مستوى العالم بمجالي الفيزياء والرياضيات التطبيقية. كما سبق ونالت يد الإثم من العالم الأستاذ الدكتور محمد عيد شبير (أبا مالك؛ 28 مارس 1946-14 نوفمبر 2023) أستاذ علم المناعة والفيروسات والأحياء الدقيقة، وعدد من أفراد أسرته. وكذلك الأستاذ الدكتور إبراهيم حامد الأسطل (أبو أمجد؛ 20 يناير 1961-23 أكتوبر 2023) ألباحث والأستاذ في مناهج وطرق تدريس الرياضيات والمختص في التعليم التكنولوجي في جامعات وكليات قطاع غزة، والذي استشهد مع زوجته وأفراد من أسرته. جميعهم أعلنت «أكاديمية فلسطين للعلوم والتكنولوجيا» استشهادهم بضربات جوية إسرائيلية في القطاع. نسأل الله أن ينزلهم جميعاً وأفراد أسرهم منازل الشهداء ويسكنهم فسيح جناته.
إن آلة الحرب الإسرائيلية الآثمة قضت – ومازالت تقضي – على عدد من كبير من الأسماء العالمة التي أسهمت بحق وصدق وجهد في تطوير المعرفة العلمية الإنسانية، كما اغتالت العديد من الأطباء والباحثين العلميين ورواد الأعمال من أعضاء المجتمع العلمي العربي على الأراضي الفلسطينية، والذين ساهموا في مراحل مختلفة في برامج وأنشطة «المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا» لرفد المنطقة العربية والعالم بعلومهم وابتكاراتهم المستنيرة.
إن المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا لا تستغرب ما يقوم به الكيان الاسرائيلي من ضرب مراكز البحث العلمي والجامعات في قطاع غزة الصامد، واستهداف العلماء والأطباء والمهندسين الفلسطينيين واغتيالهم، واستهداف نظرائهم في أماكن أخرى من العالم. فهو يعلم أهميتهم ودورهم الأساس في تنمية المجتمع واستقراره.
إن الكيان الغاشم كان ولا يزال يستهدف الأفراد العزل من أبناء الوطن حتى أنه في حربه الأخيرة على الشعب العربي الفلسطيني استهدف المؤسسات الصحية والعلمية والثقافية وأماكن العبادة، وبذل جهد إرهابه في القضاء على رجال ونساء الإبداع والمعرفة والعلم والخبراء المتخصصون، مع حرصه الإجرامي على تدمير المدارس والجامعات والمستشفيات دون أي رادع أخلاقي أو ديني أو قانون إنساني، مما يؤكد على مرجعيته القائمة على الاستعلاء البغيض وإبادة الآخر.
إن المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا، وهي أكبر شبكة عربية تجمع العلماء والخبراء العرب في مختلف دول العالم، عملت منذ تأسيسها في الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 2000م على تعزيز التواصل فيما بين العلماء، ودعم أدائهم وخدمتهم لتسخير معارفهم في خدمة تقدم الدول العربية نحو امتلاك المعرفة وتطوير التكنولوجيا المفيدة للمنطقة العربية. في حين أننا فقدنا الاتصال بالعديد من المنتسبين للمؤسسة من أعضاء المجتمع العلمي العربي في غزة، مفترضين أن أغلبهم بين شهيد وشريد، وفي ظل هذه الظروف الصعبة والقاسية نسأل الله لشهيدهم الجنة ولشريدهم السلامة وسرعة العودة لاستكمال رسالتهم الخيّرة.
إننا ندين بأشد العبارات هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة الذي يوصف بالإبادة الجماعية التي تحرّمها كل المواثيق الدولية والدينية والحضارية، وهذه الرغبة المريضة في إحداث كل أشكال الدمار والتجويع والتشريد والحصار بمنطقة تعيش منذ ثلاثة عقود حصارا شاملا.
وفي الوقت الذي دعا فيه الأمين العام للأمم المتحدة إلى تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، على اعتبار أن الحرب على قطاع غزة تهدد الأمن والسلم العالميين، فإننا ندعو الهيئات العلمية العالمية وخاصة منظمة «اليونسكو» و«المجلس الدولي للعلوم» (ICSU)، إلى إدانة جرائم الاغتيال البشعة والهجوم البربري على الهيئات الأكاديمية والعلمية واعضائها، في غزة وغيرها من مناطق النزاع حول العالم، وتوفير الأطر القانونية والعملية لحمايتهم في أماكن النزاعات والحروب.
كما ندعو، بهذه المناسبة الأليمة، الدول العربية لإدراك أهمية حماية المؤسسات العلمية والتكنولوجية بمختلف أشكالها سواء كانت مستشفيات، أو جامعات، أو مراكز بحثية، أو مكتبات ومراكز توثيق، وأعضائها والعاملين فيها، في أوقات النزاعات والحروب والكوارث، ووضع الخطط والاستراتيجيات لتوفير الحماية اللازمة لهم، كونهم مورد استراتيجي لبناء المجتمع وتنميته بعد الحروب والأزمات، وأخذ زمام المبادرة لتمكينها من أداء دورها الحضاري المتميز، إذ أن فيها يتم تطوير المعرفة وتسخيرها لخدمة المجتمع وتنميته ليؤدي دوره ووضع دولنا في مكانها اللائق كمنتجين للمعرفة الإنسانية أمام دول العالم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك