العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الأمريكاني الكذوب الصادق

الصدق‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بالاعتراف‭ ‬بالكذب‭ ‬يستحق‭ ‬الإعجاب‭ ‬والتقدير،‭ ‬وكما‭ ‬في‭ ‬المقولة‭ ‬المنسوبة‭ ‬للإمام‭ ‬علي‭ ‬كرم‭ ‬الله‭ ‬وجهه‭ ‬فإن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالحق‭ ‬فضيلة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فلا‭ ‬حرج‭ ‬علي‭ ‬عندما‭ ‬أبدي‭ ‬إعجابي‭ ‬بشخص‭ ‬‮«‬مستهبل‮»‬‭ ‬مارس‭ ‬الكذب‭ ‬ثم‭ ‬اعترف‭ ‬بأنه‭ ‬كاذب‭ ‬ونطق‭ ‬بالحق‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الصدق،‭ ‬وهذا‭ ‬الشخص‭ ‬هو‭ ‬باتريك‭ ‬ميرفي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عضوا‭ ‬بالمحكمة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لوس‭ ‬أنجلوس‭ ‬الأمريكية،‭ ‬لأنه‭ ‬أمين‭ ‬مع‭ ‬نفسه،‭ ‬فقد‭ ‬مثل‭ ‬ميرفي‭ ‬أمام‭ ‬مجلس‭ ‬تأديب،‭ ‬لأنه‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬400‭ ‬يوم‭ ‬خلال‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬بسبب‭ ‬المرض،‭ ‬وبعد‭ ‬بدء‭ ‬جلسة‭ ‬التأديب‭ ‬بقليل،‭ ‬انسحب‭ ‬ميرفي‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬صداع‭ ‬شديد،‭ ‬وبعد‭ ‬استئناف‭ ‬الجلسة‭ ‬شرح‭ ‬ميرفي‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬صحته‭ ‬معتلة‭ ‬دائماً،‭ ‬ولكن‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬التأديب‭ ‬واجهه‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬مرضية‭ ‬أخرى‭ ‬التحق‭ ‬بكلية‭ ‬الطب،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تأكدت‭ ‬الكلية‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬صحته‭ ‬زي‭ ‬البمب،‭ ‬هنا‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬القاضي‭ ‬ميرفي‭ ‬مناصا‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأن‭ ‬المرض‭ ‬الذي‭ ‬يأتيه‭ ‬فقط‭ ‬أثناء‭ ‬العمل‭ ‬وأنه‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬أوفر‭ ‬صحة‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬العمل‭.‬

كلنا‭ ‬ذلك‭ ‬الـ«ميرفي‮»‬‭... ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أنا‭ ‬شخصيا‭ ‬ذلك‭ ‬الميرفي،‭ ‬فعندما‭ ‬أكون‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬أكون‭ ‬أحيانا‭ ‬مكتئبا‭ ‬وعكر‭ ‬المزاج،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬أسال‭ ‬نفسي‭: ‬ما‭ ‬ضر‭ ‬الشركة‭ ‬التي‭ ‬أعمل‭ ‬بها‭ ‬لو‭ ‬أعطتني‭ ‬راتبي‭ ‬كاملا‭ ‬وأنا‭ ‬جالس‭ ‬في‭ ‬بيتي؟‭ ‬يعني‭ - ‬اسم‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ - ‬جعفر‭ ‬لو‭ ‬غاب‭ ‬سيتوقف‭ ‬دولاب‭ ‬العمل‭ ‬وتنخفض‭ ‬الانتاجية؟‭ ‬ضع‭ ‬اسمك‭ ‬مكان‭ ‬‮«‬جعفر‮»‬‭ ‬وسيظل‭ ‬السؤال‭ ‬وجيها‭.‬

يتندر‭ ‬البعض‭ ‬بأن‭ ‬رئيساً‭ ‬عربياً‭ ‬قرأ‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬أن‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬غادروا‭ ‬البلاد‭ ‬لقضاء‭ ‬العطلة‭ ‬الصيفية‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬وأن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصفهم‭ ‬من‭ ‬موظفي‭ ‬الدولة،‭ ‬فاقترح،‭ ‬أنه‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬دولاب‭ ‬العمل‭ ‬يدور‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬كل‭ ‬أولئك‭ ‬الموظفين،‭ ‬فإنه‭ ‬يجب‭ ‬خفض‭ ‬النفقات‭ ‬الحكومية‭ ‬بتفنيش‭ ‬جميع‭ ‬الموظفين‭ ‬الموجودين‭ ‬خارج‭ ‬البلاد،‭ ‬أي‭ ‬خمسين‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬موظفي‭ ‬الدولة‭ ‬وعدم‭ ‬تعيين‭ ‬آخرين‭ ‬مكانهم‭!! ‬كلام‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬ساذجاً‭ ‬للمتحذلقين‭ ‬المتثاقفين‭ ‬من‭ ‬الفصيلة‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬عنها‭ ‬الشاعر‭ ‬الصعلوك‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬نجم‭: (‬يعيش‭ ‬المثقف‭ ‬على‭ ‬مقهى‭ ‬ريش‭... ‬محفلط‭ ‬مزفلط‭... ‬كثير‭ ‬الكلام‭... ‬عديم‭ ‬الممارسة‭ ‬عدو‭ ‬الزحام‭... ‬بكام‭ ‬كلمة‭ ‬فاضية‭ ‬وكام‭ ‬اصطلاح‭... ‬يفبرك‭ ‬حلول‭ ‬المشكلات‭ ‬قوام‭... ‬يعيش‭ ‬التنابلة‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الزمالك‭... ‬وحي‭ ‬الزمالك‭ ‬مسالك‭ ‬مسالك‭... ‬تحاول‭ ‬تفكّر‭ ‬تهؤب‭ ‬هناك‭... ‬تودر‭ ‬حياتك‭ ‬بلاش‭ ‬المهالك‭). ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬الزعيم‭ ‬نطق‭ ‬بالحكمة‭.‬

دعونا‭ ‬نعترف‭ ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬بأن‭ ‬معظمنا‭ ‬عبء‭ ‬على‭ ‬الأجهزة‭ ‬الحكومية‭ ‬التي‭ ‬نعمل‭ ‬بها،‭ ‬وأنه‭ ‬خير‭ ‬لنا‭ ‬ولها‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تسريحنا‭ ‬منها‭ ‬بمعروف‭ (‬يعني‭ ‬يعطونا‭ ‬اللي‭ ‬فيها‭ ‬النصيب‭) ‬وسيستمر‭ ‬العمر‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الحال‭ ‬البائس،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬معارض‭ ‬محترف‭ ‬لكل‭ ‬الحكومات‭ ‬السودانية‭ ‬المتعاقبة،‭ ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬حكومة‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬وش‭ ‬الدنيا‭ ‬تستأهل‭ ‬تأييدي‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬ابتلى‭ ‬الساحة‭ ‬السياسية‭ ‬السودانية‭ ‬بكائنات‭ ‬طويلة‭ ‬الأعمار،‭ ‬لا‭ ‬تشبع‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬للشعب‭ ‬أن‭ ‬يشبع،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أنكر‭ ‬فضل‭ ‬الحكومة‭ ‬السودانية‭ ‬عليّ،‭ ‬فقد‭ ‬تسلمتني‭ ‬من‭ ‬أهلي‭ ‬وعمري‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬وظللت‭ ‬على‭ ‬كفالة‭ ‬الحكومة‭ ‬حتى‭ ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭... ‬يعني‭ ‬الحكومة‭ ‬قدمت‭ ‬لي‭ ‬التعليم‭ ‬والأكل‭ ‬والمسكن‭ ‬والملبس‭... ‬وفي‭ ‬الجامعة‭ ‬كانوا‭ ‬يعطوننا‭ ‬جنيهاً‭ ‬ونصف‭ ‬الجنيه‭ ‬شهرياً،‭ ‬وأدت‭ ‬هذه‭ ‬المنحة‭ ‬المترفة‭ ‬إلى‭ ‬انتقالي‭ ‬مجدداً‭ ‬إلى‭ ‬الطبقة‭ ‬البرجوازية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أنتمي‭ ‬إليها‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬طالباً‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬بحكم‭ ‬امتلاكي‭ ‬حمارا‭ ‬كان‭ ‬يقلني‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬بقية‭ ‬التلاميذ‭ ‬يأتونها‭ ‬راجلين‭ ‬سيراً‭ ‬على‭ ‬أقدامهم،‭ ‬وطوال‭ ‬فترة‭ ‬الدراسة‭ ‬كانت‭ ‬الحكومة‭ ‬تشتري‭ ‬لنا‭ ‬النظارات‭ ‬الطبية،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬طالب‭ ‬سوداني‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬لبس‭ ‬النظارة‭ ‬الطبية‭ ‬وبصره‭ ‬حديد‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬‮«‬البلاش‭ ‬كثر‭ ‬منه‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬استهبل‭ ‬طبيب‭ ‬العيون‭: ‬في‭ ‬أي‭ ‬اتجاه‭ ‬تفتح‭ ‬هذه‭ ‬الدائرة؟‭... ‬أي‭ ‬دائرة؟‭... ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭!... ‬أي‭ ‬لوحة؟‭ ‬فيقرر‭ ‬الطبيب‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬نظارة‭ ‬ذات‭ ‬عدسات‭ ‬مترادفه‭ ‬ويلبس‭ ‬صاحبنا‭ ‬النظارة‭ ‬ويحس‭ ‬أنه‭ ‬ارتقى‭ ‬في‭ ‬السلم‭ ‬الطبقي،‭ ‬وصار‭ ‬مثقفا‭ ‬لأن‭ ‬النظارات‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الناس‭ ‬ميسم‭ ‬من‭ ‬يكثرون‭ ‬من‭ ‬القراءة،‭ ‬وكان‭ ‬الأميون‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬النظر،‭ ‬ويعتبرون‭ ‬ذلك‭ ‬مرضا‭ ‬لا‭ ‬شفاء‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬قريب‭ ‬لي‭ ‬نصحته‭ ‬باستخدام‭ ‬نظارة‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬بحاجة‭ ‬إليها‭ ‬‮«‬مفيش‭ ‬حاجة‭ ‬تستاهل‭ ‬الشوف‮»‬،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬أنكرت‭ ‬جمائل‭ ‬تلك‭ ‬الحكومة‭ ‬ومارست‭ ‬التسيب‭ ‬خلال‭ ‬عملي‭ ‬لديها‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬طفشت‮»‬‭ ‬أي‭ ‬غادرت‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا