العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عندما يمكر الصغار (2)

تناولت‭ ‬بالأمس‭ ‬موضوع‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬هوم‭ ‬ألون‮»‬‭ ‬الأمريكي‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬ببطولته‭ ‬مكولكي‭ ‬كولكن‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬العاشرة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬ويتناول‭ ‬في‭ ‬جزءين‭ ‬حكاية‭ ‬طفل‭ ‬بقي‭ ‬بمفرده‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نسيه‭ ‬أهله‭ ‬في‭ ‬زحمة‭ ‬السفر‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬أخا‭ ‬وأختا،‭ ‬وهوم‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬البيت‮»‬‭ ‬بينما‭ ‬ألون‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬بمفرده،‭ ‬وكمدرس‭ ‬لغة‭ ‬إنجليزية‭ ‬‮«‬تائب‭ ‬عن‭ ‬المهنة‮»‬‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أوضح‭ ‬أن‭ ‬هوم‭ (‬home‭) ‬فيها‭ ‬حميمية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هاوس‭ (‬house‭) ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬المبنى‭ ‬من‭ ‬حجر‭ ‬أو‭ ‬طين،‭ ‬تماما‭ ‬كالفرق‭ ‬بين‭ ‬الدار‭ ‬والبيت‭ ‬والمنزل،‭ ‬فالدار‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬الانتماء‭ ‬ولهذا‭ ‬يسمي‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ ‬الوطن‭ ‬‮«‬ديرة‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬مشتقة‭ ‬من‭ ‬دار،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬اسم‭ ‬الدلع‭ ‬للدار‭ ‬والإنسان‭ ‬لا‭ ‬يدلع‭ ‬ويدلل‭ ‬إلا‭ ‬‮«‬العزيز‭ ‬والغالي‮»‬‭.‬

وعطفا‭ ‬على‭ ‬حكاية‭ ‬الفيلم‭ ‬سردت‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬عندما‭ ‬بقي‭ ‬أصغر‭ ‬أولادي‭ ‬في‭ ‬الدوحة‭ ‬بمفرده‭ ‬بينما‭ ‬لحق‭ ‬بنا‭ ‬إخوته‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وكنا‭ ‬أنا‭ ‬وزوجتي‭ ‬قد‭ ‬سبقناهم‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬بأسبوع،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أذكر‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬تأشيرة‭ ‬دخوله‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬أنه‭ ‬كقاصر‭ ‬مسافر‭ ‬في‭ ‬صحبة‭ ‬اخوته،‭ ‬ورفضت‭ ‬سلطات‭ ‬المطار‭ ‬في‭ ‬الدوحة‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬السماح‭ ‬له‭ ‬بالسفر‭ ‬فقضى‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬بمفرده‭ ‬معظم‭ ‬ساعات‭ ‬الأيام‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬مكثها‭ ‬في‭ ‬الدوحة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلحق‭ ‬بنا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أقنع‭ ‬قريبا‭ ‬لنا‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الأمية‭ ‬التكنولوجية‭ ‬بأنه‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬كومبيوتر‭ ‬بيتنا‭ ‬لأداء‭ ‬مهام‭ ‬لا‭ ‬تتم‭ ‬إلا‭ ‬باستخدامه،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬القريب‭ ‬مساء‭ ‬لاصطحابه‭ ‬الى‭ ‬بيته‭ ‬لينام‭ ‬مع‭ ‬أفراد‭ ‬عائلته،‭ ‬وكان‭ ‬قريبنا‭ ‬ذلك‭ ‬يحسب‭ ‬ان‭ ‬كمبيوتر‭ ‬بيتنا‭ ‬به‭ ‬مميزات‭ ‬خاصة‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬في‭ ‬غيره‭.‬

في‭ ‬مطار‭ ‬لندن‭ ‬احتجزت‭ ‬سلطات‭ ‬الجوازات‭ ‬الولد‭ ‬نحو‭ ‬ساعتين‭ ‬حتى‭ ‬اضطررت‭ ‬إلى‭ ‬الشكوى‭ ‬فتم‭ ‬‮«‬التحقيق‮»‬‭ ‬معي‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭: ‬ما‭ ‬تاريخ‭ ‬ميلاده؟‭ ‬ما‭ ‬عنوانك‭ ‬في‭ ‬لندن؟‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬أبرز‭ ‬ملامحه‭ (‬قلت‭ ‬لهم‭: ‬طالع‭ ‬حلو‭ ‬زي‭ ‬أبوه‭ ‬ولكنهم‭ ‬زجروني‭: ‬بلاش‭ ‬هزار‭ ‬فالمسألة‭ ‬جد‭ ‬ونحن‭ ‬نكافح‭ ‬تهريب‭ ‬الأطفال‭ ‬والاتجار‭ ‬بهم‭)‬،‭ ‬وكادوا‭ ‬يحتجزونه‭ ‬ويعتقلونني‭ ‬لأنني‭ ‬تلجلجت‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬مولده،‭ ‬فهو‭ ‬وشقيقه‭ ‬الأكبر‭ ‬مولودان‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬وبذلك‭ ‬اختلطت‭ ‬علي‭ ‬الأمور‭ ‬وقلت‭ ‬لهم‭ ‬إنه‭ ‬مولود‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬كذا،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬يوم‭ ‬مولد‭ ‬شقيقه،‭ ‬ثم‭ ‬خرج‭ ‬الولد‭ ‬من‭ ‬دهاليز‭ ‬مطار‭ ‬هيثرو‭ ‬مصحوباً‭ ‬بضابط‭ ‬جوازات‭ ‬ألقى‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬‮«‬شكلي‮»‬‭ ‬واقتنع‭ ‬بأنني‭ ‬فعلا‭ ‬والد‭ ‬الطفل‭ ‬الذكي‭ ‬معه‭. ‬وزال‭ ‬ضيقي‭ ‬من‭ ‬تأخير‭ ‬خروج‭ ‬ولدي‭ ‬من‭ ‬المطار‭ ‬وشكرت‭ ‬الرجل‭. ‬وأوصلته‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬إقامتنا‭ ‬واحتضنته‭ ‬امه‭ ‬وكأنه‭ ‬كان‭ ‬مفقودا‭ ‬وهي‭ ‬تبكي،‭ ‬وتلعن‭ ‬لندن‭ ‬والملكة‭ ‬إليزابيث،‭ ‬وما‭ ‬جعلني‭ ‬أحس‭ ‬بالغيرة‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الولد‭ ‬كان‭ ‬وقتها‭ ‬دون‭ ‬الـ15‭ ‬بقليل‭ ‬ولديه‭ ‬هاتف‭ ‬جوال‭ ‬ويرتدي‭ ‬بنطلون‭ ‬جينز‭ ‬وركب‭ ‬الطائرة‭ ‬وجاء‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬بمفرده،‭ ‬بينما‭ ‬لم‭ ‬يتسن‭ ‬لي‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬سنه‭ ‬سوى‭ ‬ركوب‭ ‬الحمير‭.‬

فكرت‭ ‬في‭ ‬الاتصال‭ ‬هاتفياً‭ ‬بأمي‭ ‬لمعاتبتها‭ ‬لأنها‭ ‬قصرت‭ ‬في‭ ‬حقي‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬كثيرة‭: ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬السريلاك‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رزقت‭ ‬بعيالي‭. ‬أما‭ ‬البامبرز‭ ‬فـ«خليها‭ ‬على‭ ‬الله‮»‬،‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سمعت‭ ‬به‭ ‬أمي‭ ‬فإنها‭ ‬ظلت‭ ‬تزعم‭ ‬أنه‭ ‬يسبب‭ ‬سرطان‭ ‬الجلد‭. ‬طبعاً‭ ‬ليس‭ ‬وارداً‭ ‬أن‭ ‬أعاتب‭ ‬أمي‭ ‬لأنها‭ ‬لم‭ ‬تطعمني‭ ‬البيرغر‭ ‬والبيتزا‭ ‬والآيسكريم،‭ ‬ولكن‭ ‬أمر‭ ‬ولدي‭ ‬الذي‭ ‬فارقنا‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬رعاية‭ ‬أقاربنا‭ ‬أثار‭ ‬شجوني‭: ‬تركت‭ ‬أهلي‭ ‬وعمري‭ ‬11‭ ‬سنة‭ ‬لألتحق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬بلدتنا‭.. ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أهرب‭ ‬بعيداً‭ ‬لأبكي‭ ‬بكاء‭ ‬مرا‭.. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممكناً‭ ‬أن‭ ‬أبكي‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين‭ ‬فأصبح‭ ‬أضحوكة‭: ‬عايز‭ ‬يمه؟‭ ‬لسه‭ ‬ما‭ ‬فطموك؟‭ ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬فارقت‭ ‬بيتنا‭ ‬وعمري‭ ‬11‭ ‬سنة‭ ‬للدراسة‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬أقمت‭ ‬مع‭ ‬أهلي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الواحدة،‭ ‬وقد‭ ‬قضيت‭ ‬جميع‭ ‬مراحل‭ ‬التعليم‭ ‬من‭ ‬المتوسطة‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬وأنا‭ ‬أسكن‭ ‬في‭ ‬حرم‭ ‬المدرسة‭ ‬والجامعة‭. ‬وربما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬فإن‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلي‭ ‬يحسون‭ ‬بعمق‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬وطن‭ ‬قدم‭ ‬لنا‭ ‬أفضل‭ ‬التعليم‭ ‬والطعام‭ ‬والسكن‭ (‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬الحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬الوطن‭ ‬السخي‭ ‬مباءة‭ ‬للفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والمرض‭ ‬والحروب‭ ‬والكروب‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا