بقلم: جونثان كوك
إن التدفق الحالي للتعاطف مع إسرائيل والبيانات التي تصدر عن العواصم الغربية تأييدا لها وطبيعة التغطيات الإعلامية الغربية يجب أن يجعل أي شخص سوي يشعر بالغثيان.
ليس لأنه ليس من المروع أن يموت ويعاني المدنيون الإسرائيليون بهذه الأعداد الكبيرة، ولكن لأن المدنيين الفلسطينيين في غزة واجهوا هجمات متكررة من إسرائيل عقداً تلو الآخر، ما أدى إلى معاناة أكبر بكثير، لكنهم لم يثيروا قط جزءاً صغيراً من القلق الذي يعبر عنه حالياً السياسيون الغربيون أو الجمهور.
إن نفاق الغرب إزاء المقاتلين الفلسطينيين الذين يقتلون ويجرحون المئات من الإسرائيليين ويحتجزون عشرات آخرين كرهائن في بعض المواقع في غزة المحاصرة وداخلها هو أمر صارخ بالفعل.
هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها الفلسطينيون، المحاصرون في القطاع الساحلي، من توجيه ضربة كبيرة ضد إسرائيل يمكن مقارنتها بشكل غامض بالوحشية التي واجهها الفلسطينيون في غزة مرارا وتكرارا منذ أن تم دفنهم في قفص قبل أكثر من 15 عاما، عندما بدأت إسرائيل عملياتها العسكرية وفرضت الحصار البري والبحري والجوي عام 2007.
تصف وسائل الإعلام الغربية عملية الهروب من سجن اسمه غزة والهجوم الذي قام به الفلسطينيون من القطاع المحاصر بأنه »غير مسبوق« -وهو فشل استخباراتي كبير من قبل إسرائيل منذ أن تم أخذها على حين غرة خلال حرب يوم أكتوبر قبل 50 عامًا بالضبط.
اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حركة حماس، التي تدير اسميا السجن المفتوح في غزة، ببدء «حرب قاسية وشريرة». لكن الحقيقة هي أن الفلسطينيين «لم يبدأوا» أي شيء. لقد تمكنوا، بعد الكثير من النضال، من إيجاد طريقة لإيذاء جلادهم.
حتماً بالنسبة إلى الفلسطينيين، كما لاحظ نتنياهو أيضاً، فإن «الثمن سيكون باهظاً» -وخاصة بالنسبة إلى المدنيين. وستنزل إسرائيل على الأسرى أشد العقوبات بسبب تمردهم
ولنشاهد مدى ضآلة التعاطف والاهتمام من جانب الغرب تجاه العديد من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الذين تقتلهم إسرائيل مرة أخرى. وسوف يتم حجب معاناتهم الهائلة وتبريرها بمصطلح «الانتقام الإسرائيلي».
ما الدروس الحقيقية مما يجري على مسمع ومرأى من العالم؟
إن كل التحليلات الحالية التي تركز على «الأخطاء» الاستخبارية الإسرائيلية تصرف الانتباه عن الدرس الحقيقي المستفاد من هذه الأحداث السريعة التطور.
ولم يهتم أحد حقاً بينما كان الفلسطينيون في غزة يتعرضون للحصار الذي تفرضه إسرائيل والذي حرمهم من أساسيات الحياة. إن بضع عشرات من الإسرائيليين الذين يحتجزهم مقاتلو حماس كرهائن يتضاءل بالمقارنة مع مليوني فلسطيني تحتجزهم إسرائيل كرهائن في سجن مفتوح منذ ما يقرب من عقدين من الزمن.
ولم يهتم أحد حقاً عندما تبين أن الفلسطينيين في غزة قد فرضوا عليهم «نظاما غذائيا للتجويع» من قبل إسرائيل -ولم يُسمح إلا بدخول كميات محدودة من الطعام، وذلك محسوباً لإبقاء السكان بالكاد يحصلون على الغذاء.
ولم يهتم أحد حقًا عندما قصفت إسرائيل القطاع الساحلي كل بضع سنوات، ما أدى إلى مقتل مئات المدنيين الفلسطينيين في كل مرة. أطلقت عليها إسرائيل ببساطة اسم «قص العشب».
إن تدمير مساحات شاسعة من غزة، وهو ما تفاخر به جنرالات إسرائيل باعتباره إعادة القطاع إلى العصر الحجري، تم إضفاء الطابع الرسمي عليه باعتباره استراتيجية عسكرية تُعرف باسم «عقيدة الضاحية».
ولم يهتم أحد حقاً عندما استهدف القناصة الإسرائيليون الممرضات والشباب والأشخاص على الكراسي المتحركة الذين خرجوا للاحتجاج على سجنهم من قبل إسرائيل. وتُرك عدة آلاف من مبتوري الأطراف بعد أن تلقى هؤلاء القناصون أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين بشكل عشوائي في سيقانهم أو كاحلهم.
إن القلق الغربي إزاء مقتل مدنيين إسرائيليين على أيدي المقاتلين الفلسطينيين أمر يصعب استيعابه. ألم يمت مئات الأطفال الفلسطينيين خلال السنوات الخمس عشرة الماضية في حملات القصف الإسرائيلية المتكررة على غزة؟ ألم تكن حياتهم تساوي حياة الإسرائيليين – وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلما لا؟
وبعد كل هذا القدر من اللامبالاة فترة طويلة، أصبح من الصعب أن نسمع الرعب المفاجئ من جانب الحكومات ووسائل الإعلام الغربية، لأن الفلسطينيين وجدوا أخيراً طريقة تعكس السياسة غير الإنسانية التي تنتهجها إسرائيل منذ عقود من الزمن ـ للرد بفعالية.
هذه هي اللحظة التي تمزق القناع وتكشف العنصرية السافرة التي تتنكر في شكل قلق أخلاقي في العواصم الغربية، وخير من يجسد هذا النفاق الغربي هو فولوديمر زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، الذي نشر تغريدة مطولة أدان فيها الفلسطينيين ووصفهم بـ «الإرهابيين» وقدم لإسرائيل دعمه الثابت.
لقد أكد أيضا أن من «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس أمر لا جدال فيه»، مضيفا: «يجب على العالم أن يقف متحدا ومتضامنا حتى لا يحاول الإرهاب كسر الحياة أو إخضاعها في أي مكان وفي أي لحظة».
ويبدو أن أشكال «الإرهاب» ليست كلها متساوية في نظر زيلينسكي، أو أسياده في العواصم الغربية. ومن المؤكد أن إرهاب الدولة الإسرائيلي ليس هو الذي جعل حياة الفلسطينيين بائسة لعقود من الزمن في نظرهم.
إن قلب الواقع أمر مذهل في الغرب بسياسته وإعلامه. لا يستطيع الفلسطينيون «إخضاع الحياة» في إسرائيل. ليس لديهم مثل هذه القوة، حتى لو تمكن عدد قليل منهم من الخروج من قفصهم فترة وجيزة. إسرائيل هي التي ظلت تُخضع الحياة الفلسطينية لعقود من الزمن.
كيف يكون لإسرائيل «حق لا جدال فيه» في «الدفاع عن نفسها» ضد الفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم وتسيطر عليها؟ فكيف لا يكون لروسيا حق مماثل في «الدفاع عن نفسها» عندما تضرب المدن الأوكرانية «انتقاما» من الضربات الأوكرانية التي كانت تهدف إلى تحرير أراضيها من الاحتلال الروسي؟
وتقوم إسرائيل الآن، الطرف الأقوى والعدائي، بتدمير غزة «انتقاماً»، على حد تعبير هيئة الإذاعة البريطانية، على الهجوم الفلسطيني الأخير.
إذًا، على أي أساس سيتمكن زيلينسكي أو مسؤولوه من إدانة موسكو عندما تطلق صواريخ «انتقاما» على الضربات الأوكرانية على الأراضي الروسية؟ فكيف إذا كانت المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي لغزة إرهابا، كما يؤكد زيلينسكي، فكيف لا تكون المقاومة الأوكرانية للاحتلال الروسي إرهابا بنفس القدر؟
ومن خلال الانغماس في خداع إسرائيل، سمح حلفاء إسرائيل لها بارتكاب المزيد من الأكاذيب الشنيعة. وفي نهاية الأسبوع، حذر نتنياهو الفلسطينيين في غزة من «المغادرة الآن» لأن القوات الإسرائيلية تستعد «للتحرك بكل قوة».
ولكن نتنياهو يدرك، كما يعرفه مساعدوه الغربيون، أن سكان غزة ليس لديهم مكان يفرون إليه. لا يوجد مكان للاختباء. لقد ظل الفلسطينيون محاصرين في غزة منذ أن حاصرتها إسرائيل براً وبحراً وجواً.
والفلسطينيون الوحيدون القادرون على «مغادرة غزة» هم الفصائل المسلحة التي هربت من سجنها الذي فرضته إسرائيل، والتي يتهمها السياسيون ووسائل الإعلام الغربية بأنهم «إرهابيون».
إن الحكومات الغربية التي شعرت بالرعب الشديد من الهجوم الفلسطيني على إسرائيل هي أيضاً الحكومات التي تلتزم الصمت بينما تقوم إسرائيل بقطع الكهرباء عن سجن غزة –مرة أخرى في «انتقام» مفترض.
إن العقاب الجماعي لمليوني فلسطيني في غزة، الذين يعتمدون على إسرائيل للحصول على المساعدات لأن إسرائيل تحاصر وتسيطر على كل جانب من جوانب حياتهم في القطاع، هو جريمة حرب.
ومن الغريب أن المسؤولين الغربيين يفهمون أن قيام روسيا بقصف محطات الطاقة في أوكرانيا، وإطفاء الأنوار، يعد جريمة حرب. إنهم يصرخون مطالبين بجر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. فلماذا يصعب عليهم إذن فهم أوجه التشابه بين ما تفعله إسرائيل بغزة؟
هناك درسان فوريان ومتناقضان يمكن تعلمهما مما حدث خلال الأيام القليلة الماضية. الأول هو إن الروح الإنسانية لا يمكن حبسها إلى أجل غير مسمى. يبتكر الفلسطينيون في غزة باستمرار طرقًا جديدة للتحرر من قيودهم.
لقد بنوا شبكة من الأنفاق، قامت إسرائيل بتحديد موقع معظمها وتدميرها. لقد أطلقوا صواريخ يتم إسقاطها دائمًا بواسطة أنظمة اعتراض أكثر تطوراً. لقد احتجوا بشكل جماعي على السياج شديد التحصين، الذي تعلوه أبراج المدافع، وحاصرتهم إسرائيل، لكنهم أطلقوا النار عليهم من قبل القناصين.
الآن قاموا بعملية هروب جريئة. وسوف تقوم إسرائيل بقصف القطاع وإعادته إلى حالة الاستسلام من خلال عمليات قصف مكثفة، ولكن فقط «انتقامًا» بالطبع. إن تطلع الفلسطينيين إلى الحرية والكرامة لن يتضاءل، وسيظهر شكل آخر من أشكال المقاومة، وهو بلا شك أكثر إصرارا.
الطرفان المسؤولان عن هذه الوحشية هما إسرائيل والغرب الذي يدعمها بخنوع، لأن إسرائيل ترفض التوقف عن التعامل بوحشية مع الفلسطينيين الذين تجبرهم على العيش تحت حكمها.
والدرس الثاني هو أن إسرائيل، التي ينغمس فيها داعموها الغربيون إلى ما لا نهاية، لا يزال ليس لديها أي حافز لاستيعاب الحقيقة الأساسية المذكورة أعلاه. وقد يكون الخطاب الذي تتبناه حكومتها الحالية المؤلفة من الفاشيين والمتعصبين اليهود قبيحاً بشكل خاص، ولكن هناك إجماعاً واسع النطاق بين الإسرائيليين من كل المشارب السياسية على ضرورة استمرار قمع الفلسطينيين.
ولهذا السبب فإن ما يسمى بالمعارضة لن تتردد في دعم القصف العسكري لقطاع غزة المحاصر منذ فترة طويلة، ما أسفر عن مقتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين «لتلقينهم درسا»، وهو درس لا يمكن لأحد في إسرائيل أن يعبر عنه بخلاف تأكيد أن الفلسطينيين يجب أن يقبلوا دونيتهم الدائمة وسجنهم.
وبالفعل، فقد أجرى «الإسرائيليون الطيبون» -زعيما المعارضة يائير لابيد وبيني غانتس -مناقشات مع نتنياهو للانضمام إليه في «حكومة وحدة طارئة». ما «الطوارئ»؟ طوارئ الفلسطينيين الذين يطالبون بحقهم في عدم العيش كأسرى في وطنهم.
ويستطيع الإسرائيليون والغربيون أن يواصلوا تمارينهم العقلية لتبرير القمع الذي يتعرض له الفلسطينيون وحرمانهم من أي حق في المقاومة. لكن نفاقهم وخداع أنفسهم أصبح مكشوفا ليراه بقية العالم.
لقد دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حماسا، التي تدير اسمياً السجن المفتوح في غزة، إلى بدء «حرب قاسية». لكن الحقيقة هي أن الفلسطينيين «لم يبدأوا» أي شيء.
لقد تمكنوا، بعد كثير من النضال، من إيجاد طريقة لإيذاء جلادهم. ولم يهتم أحد حقاً بينما كان الفلسطينيون في غزة يتعرضون للحصار الذي تفرضه إسرائيل والذي حرمهم من أساسيات الحياة. إن العشرات القليلة من الإسرائيليين الذين يعتقلهم مقاتلو حماس تتضاءل بالمقارنة مع مليوني فلسطيني تحتجزهم إسرائيل كرهائن في سجن مفتوح منذ ما يقرب من عقدين من الزمن.
كومونز
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك