زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
المياه نعمة فلا ترفسوها
عن حال السودان الراهن قال شاعر لا يحضرني اسمه:
وإن سمعتم وأنتم في رحلة في الخلاء/ بأن قوما عطاشاً بالقرب من شط ماء/ ماتوا ولم يستطيعوا ري النفوس الظماء/ فلتضحكوا إن سمعتم بمثل هذا الهراء) وهو ليس بالهراء المثير للضحك بل هو أمر واقع. ففي السودان صاحب أطول حصة من نهر النيل وحيث هناك عدة أنهار موسمية وأخرى جارية على مدار العام يعاني الملايين من العطش، وتحضرني هنا أول مرة ألتقي فيها الدكتور الشاعر الناثر الساخر غازي القصيبي، رحمه الله، وهو متجهم وقلق، وكان ذلك فور عودته من لندن حيث كان سفيراً لبلاده، لتولي أعباء وزارة المياه والكهرباء، ولأنه شخص واضح وشفاف، فإنه لم يتردد في الإفصاح عن سر قلقه: هناك مشكلة مياه حقيقة في البلاد، يفاقمها غياب الوعي الشعبي بوجود المشكلة، ومن ثم إهدار واستنزاف موارد الماء الشحيحة، ولأنه لا يميل إلى علاج الأمراض المزمنة بالمسكنات، فقد تحدث عن ضرورة وضع استراتيجية طويلة الأمد لحل المشكلة، مع التركيز على تنوير المواطنين بضرورة ترشيد استهلاك المياه
أينما عملت يعتبرني بعض الزملاء «عبيطاً» لأنني أحرص على إطفاء مصابيح الحمامات فور خروجي منها، ولأنني أقفل الحنفية نحو خمس مرات وأنا استخدم أحواض الغسيل، بمعنى أنني لا أترك الماء جارياً حتى وأنا أنظف فمي بفرشاة الأسنان بل أغلق الصنبور إلى حين فراغي من تنظيف فمي وشروعي في المضمضة، وربما لا يعد سلوكي هذا دليل وعي بضرورة ترشيد استهلاك الماء والكهرباء، بقدر ما هو عادة مكتسبة لأسباب اقتصادية، فمنشؤه أنني ومنذ صغري كنت أعرف أن الإسراف في استخدام الماء والكهرباء يعني تحميل والدي كلفة إضافية عندما تأتي الفواتير.
ولكنني سعيد بأن الترشيد ذاك صار عندي ممارسة «عادية» وما زلت أخوض معارك يومية مع عيالي حول استهلاك الكهرباء والماء، فهم لا يفهمون لماذا أطالبهم بإطفاء المصابيح الزائدة عن حاجتنا من الإضاءة، أو ضرورة إغلاق صنابير المياه جيداً «طالما أن جهة عملي تتحمل قيمة استهلاكنا للكهرباء والماء»، ويتعجبون من مطالبتي لكل منهم بأن يطفئ المصابيح الكهربائية في غرفته فور خروجه منها، وحرصي على عدم تشغيل أي مكيف هواء في مكان لا يجلس فيه أفراد العائلة، وهم أيضاً لا يفهمون لماذا يميل أبناء جيلي إلى التقشف، بمعنى تفادي الإسراف والتبذير، لسنا بخلاء، ولكننا رأينا وجهاً للحياة لا نتمنى أن يراه عيالنا، ونخشوشن لأننا نعرف أن النعمة لا تدوم، ولهذا نقتصد في «صرف» الماء والكهرباء، ونحاول ترشيد الإنفاق حتى في ضروريات الحياة.
كان الفطور الذي نحمله معنا إلى المدرسة بضع تمرات، وكان من يملك أكثر من قميص أو جلباب يعد برجوازياً، وشخصياً شربت الكولا لأول مرة وعمري نحو 15 سنة ولن أنسى ما حييت إحساسي بأنني «وصلت» وبلغت غاية المجد عندما أمسكت بالزجاجة الباردة بيدي، ثم كانت الصدمة: انحشر لساني في فم الزجاجة واشتعلت النيران في أنفي بعد تسرب مادة كاوية من الكولا إلى خياشيمي. أعني أننا عشنا مراحل صعبة بمقاييس اليوم، ولكنها علمتنا أن نعمل حساب «المستخبي» (بس مو للدرجة التي مارسها والد صديق لي في دولة عربية ظل محتفظا بأكياس ضخمة من الجراد المجفف حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي تحسبا لسنوات قحط قد تأتي).
ما علينا فما أهاج الذكريات والشجون هو أنني زرت مؤخرا موقعا على النت سبق لي زيارته قبل سنوات، اسمه «قطرة» مكرس للتوعية بشؤون الماء ومعزز بدراسات وإحصاءات دقيقة تبين حجم المشكلة المترتبة على إهدار موارد المياه في السعودية ومنطقة الخليج عموماً وأول الغيث (قطرة)، وحري بذوي الاختصاص أن يرفدوا هذا الجهد الرامي إلى نشر الوعي بأهمية المحافظة على أهم ثروة للمنطقة من منطلق إدراك أن موارد المياه في الخليج أقل من موارد النفط وأن تحلية مياه البحر باهظة التكلفة وما لم تتم المحافظة على تلك الموارد فسيأتي قريباً يوم يصير فيه سعر متر الماء المكعب مثل سعر متر الزئبق الأحمر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك