العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

المياه نعمة فلا ترفسوها

عن‭ ‬حال‭ ‬السودان‭ ‬الراهن‭ ‬قال‭ ‬شاعر‭ ‬لا‭ ‬يحضرني‭ ‬اسمه‭:‬

وإن‭ ‬سمعتم‭ ‬وأنتم‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬في‭ ‬الخلاء‭/ ‬بأن‭ ‬قوما‭ ‬عطاشاً‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬شط‭ ‬ماء‭/ ‬ماتوا‭ ‬ولم‭ ‬يستطيعوا‭ ‬ري‭ ‬النفوس‭ ‬الظماء‭/ ‬فلتضحكوا‭ ‬إن‭ ‬سمعتم‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الهراء‭) ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬بالهراء‭ ‬المثير‭ ‬للضحك‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬واقع‭. ‬ففي‭ ‬السودان‭ ‬صاحب‭ ‬أطول‭ ‬حصة‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬وحيث‭ ‬هناك‭ ‬عدة‭ ‬أنهار‭ ‬موسمية‭ ‬وأخرى‭ ‬جارية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العام‭ ‬يعاني‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬العطش،‭ ‬وتحضرني‭ ‬هنا‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬ألتقي‭ ‬فيها‭ ‬الدكتور‭ ‬الشاعر‭ ‬الناثر‭ ‬الساخر‭ ‬غازي‭ ‬القصيبي،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬وهو‭ ‬متجهم‭ ‬وقلق،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬فور‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬سفيراً‭ ‬لبلاده،‭ ‬لتولي‭ ‬أعباء‭ ‬وزارة‭ ‬المياه‭ ‬والكهرباء،‭ ‬ولأنه‭ ‬شخص‭ ‬واضح‭ ‬وشفاف،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬الإفصاح‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬قلقه‭: ‬هناك‭ ‬مشكلة‭ ‬مياه‭ ‬حقيقة‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬يفاقمها‭ ‬غياب‭ ‬الوعي‭ ‬الشعبي‭ ‬بوجود‭ ‬المشكلة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إهدار‭ ‬واستنزاف‭ ‬موارد‭ ‬الماء‭ ‬الشحيحة،‭ ‬ولأنه‭ ‬لا‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬علاج‭ ‬الأمراض‭ ‬المزمنة‭ ‬بالمسكنات،‭ ‬فقد‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬وضع‭ ‬استراتيجية‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد‭ ‬لحل‭ ‬المشكلة،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬تنوير‭ ‬المواطنين‭ ‬بضرورة‭ ‬ترشيد‭ ‬استهلاك‭ ‬المياه

أينما‭ ‬عملت‭ ‬يعتبرني‭ ‬بعض‭ ‬الزملاء‭ ‬‮«‬عبيطاً‮»‬‭ ‬لأنني‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬إطفاء‭ ‬مصابيح‭ ‬الحمامات‭ ‬فور‭ ‬خروجي‭ ‬منها،‭ ‬ولأنني‭ ‬أقفل‭ ‬الحنفية‭ ‬نحو‭ ‬خمس‭ ‬مرات‭ ‬وأنا‭ ‬استخدم‭ ‬أحواض‭ ‬الغسيل،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أترك‭ ‬الماء‭ ‬جارياً‭ ‬حتى‭ ‬وأنا‭ ‬أنظف‭ ‬فمي‭ ‬بفرشاة‭ ‬الأسنان‭ ‬بل‭ ‬أغلق‭ ‬الصنبور‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬فراغي‭ ‬من‭ ‬تنظيف‭ ‬فمي‭ ‬وشروعي‭ ‬في‭ ‬المضمضة،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يعد‭ ‬سلوكي‭ ‬هذا‭ ‬دليل‭ ‬وعي‭ ‬بضرورة‭ ‬ترشيد‭ ‬استهلاك‭ ‬الماء‭ ‬والكهرباء،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عادة‭ ‬مكتسبة‭ ‬لأسباب‭ ‬اقتصادية،‭ ‬فمنشؤه‭ ‬أنني‭ ‬ومنذ‭ ‬صغري‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الماء‭ ‬والكهرباء‭ ‬يعني‭ ‬تحميل‭ ‬والدي‭ ‬كلفة‭ ‬إضافية‭ ‬عندما‭ ‬تأتي‭ ‬الفواتير‭.‬

ولكنني‭ ‬سعيد‭ ‬بأن‭ ‬الترشيد‭ ‬ذاك‭ ‬صار‭ ‬عندي‭ ‬ممارسة‭ ‬‮«‬عادية‮»‬‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أخوض‭ ‬معارك‭ ‬يومية‭ ‬مع‭ ‬عيالي‭ ‬حول‭ ‬استهلاك‭ ‬الكهرباء‭ ‬والماء،‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يفهمون‭ ‬لماذا‭ ‬أطالبهم‭ ‬بإطفاء‭ ‬المصابيح‭ ‬الزائدة‭ ‬عن‭ ‬حاجتنا‭ ‬من‭ ‬الإضاءة،‭ ‬أو‭ ‬ضرورة‭ ‬إغلاق‭ ‬صنابير‭ ‬المياه‭ ‬جيداً‭ ‬‮«‬طالما‭ ‬أن‭ ‬جهة‭ ‬عملي‭ ‬تتحمل‭ ‬قيمة‭ ‬استهلاكنا‭ ‬للكهرباء‭ ‬والماء‮»‬،‭ ‬ويتعجبون‭ ‬من‭ ‬مطالبتي‭ ‬لكل‭ ‬منهم‭ ‬بأن‭ ‬يطفئ‭ ‬المصابيح‭ ‬الكهربائية‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬فور‭ ‬خروجه‭ ‬منها،‭ ‬وحرصي‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬تشغيل‭ ‬أي‭ ‬مكيف‭ ‬هواء‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬يجلس‭ ‬فيه‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة،‭ ‬وهم‭ ‬أيضاً‭ ‬لا‭ ‬يفهمون‭ ‬لماذا‭ ‬يميل‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬إلى‭ ‬التقشف،‭ ‬بمعنى‭ ‬تفادي‭ ‬الإسراف‭ ‬والتبذير،‭ ‬لسنا‭ ‬بخلاء،‭ ‬ولكننا‭ ‬رأينا‭ ‬وجهاً‭ ‬للحياة‭ ‬لا‭ ‬نتمنى‭ ‬أن‭ ‬يراه‭ ‬عيالنا،‭ ‬ونخشوشن‭ ‬لأننا‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬النعمة‭ ‬لا‭ ‬تدوم،‭ ‬ولهذا‭ ‬نقتصد‭ ‬في‭ ‬‮«‬صرف‮»‬‭ ‬الماء‭ ‬والكهرباء،‭ ‬ونحاول‭ ‬ترشيد‭ ‬الإنفاق‭ ‬حتى‭ ‬في‭  ‬ضروريات‭ ‬الحياة‭.‬

كان‭ ‬الفطور‭ ‬الذي‭ ‬نحمله‭ ‬معنا‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬بضع‭ ‬تمرات،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قميص‭ ‬أو‭ ‬جلباب‭ ‬يعد‭ ‬برجوازياً،‭ ‬وشخصياً‭ ‬شربت‭ ‬الكولا‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬وعمري‭ ‬نحو‭ ‬15‭ ‬سنة‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬ما‭ ‬حييت‭ ‬إحساسي‭ ‬بأنني‭ ‬‮«‬وصلت‮»‬‭ ‬وبلغت‭ ‬غاية‭ ‬المجد‭ ‬عندما‭ ‬أمسكت‭ ‬بالزجاجة‭ ‬الباردة‭ ‬بيدي،‭ ‬ثم‭ ‬كانت‭ ‬الصدمة‭: ‬انحشر‭ ‬لساني‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬الزجاجة‭ ‬واشتعلت‭ ‬النيران‭ ‬في‭ ‬أنفي‭ ‬بعد‭ ‬تسرب‭ ‬مادة‭ ‬كاوية‭ ‬من‭ ‬الكولا‭ ‬إلى‭ ‬خياشيمي‭. ‬أعني‭ ‬أننا‭ ‬عشنا‭ ‬مراحل‭ ‬صعبة‭ ‬بمقاييس‭ ‬اليوم،‭ ‬ولكنها‭ ‬علمتنا‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬حساب‭ ‬‮«‬المستخبي‮»‬‭ (‬بس‭ ‬مو‭ ‬للدرجة‭ ‬التي‭ ‬مارسها‭ ‬والد‭ ‬صديق‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬ظل‭ ‬محتفظا‭ ‬بأكياس‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬الجراد‭ ‬المجفف‭ ‬حتى‭ ‬أواخر‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تحسبا‭ ‬لسنوات‭ ‬قحط‭ ‬قد‭ ‬تأتي‭).‬

ما‭ ‬علينا‭ ‬فما‭ ‬أهاج‭ ‬الذكريات‭ ‬والشجون‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬زرت‭ ‬مؤخرا‭ ‬موقعا‭ ‬على‭ ‬النت‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬زيارته‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬قطرة‮»‬‭ ‬مكرس‭ ‬للتوعية‭ ‬بشؤون‭ ‬الماء‭ ‬ومعزز‭ ‬بدراسات‭ ‬وإحصاءات‭ ‬دقيقة‭ ‬تبين‭ ‬حجم‭ ‬المشكلة‭ ‬المترتبة‭ ‬على‭ ‬إهدار‭ ‬موارد‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬ومنطقة‭ ‬الخليج‭ ‬عموماً‭ ‬وأول‭ ‬الغيث‭ (‬قطرة‭)‬،‭ ‬وحري‭ ‬بذوي‭ ‬الاختصاص‭ ‬أن‭ ‬يرفدوا‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬الرامي‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬بأهمية‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬ثروة‭ ‬للمنطقة‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬موارد‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬النفط‭ ‬وأن‭ ‬تحلية‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬باهظة‭ ‬التكلفة‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الموارد‭ ‬فسيأتي‭ ‬قريباً‭ ‬يوم‭ ‬يصير‭ ‬فيه‭ ‬سعر‭ ‬متر‭ ‬الماء‭ ‬المكعب‭ ‬مثل‭ ‬سعر‭ ‬متر‭ ‬الزئبق‭ ‬الأحمر‭. ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا