لماذا حقق العرب انتصارهم التاريخي في حرب أكتوبر 1973؟
تحتفل الأمة العربية اليوم من المحيط إلى الخليج بذكرى مرور نصف قرن أو 50 عاما على الانتصار الاستراتيجي والتاريخي الذي حققه العرب في حرب أكتوبر1973، فقد نجحت القوات العربية على الجبهتين المصرية والسورية في إنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر والتي حاول الكيان الصهيوني تكريسها بعد عدوان 5 يونيو عام 1967.
ولذلك سيظل يوم السادس من أكتوبر عام 1973 يوما خالدا من أيام العرب الكبرى مثلما يتذكر العرب في تاريخهم المجيد أياما زاهية لا تُنسى مثل الانتصار في معركة القادسية في بدايات الفتوحات الإسلامية والتي قضت على الإمبراطورية الفارسية، أو معركة اليرموك التي فتحت الباب للقضاء على إمبراطورية الروم، وكذلك موقعة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي التي قادت إلى تحرير القدس والتصدي للحملات الصليبية، وكذلك موقعة عين جالوت التي أدت إلى سحق الغزو المغولي لديار العرب والمسلمين.
وفي التاريخ الحديث وبعد النجاح في التحرر من الاستعمار الغربي، سيظل يوم 6 أكتوبر يوما مجيدا في تاريخ العرب الحديث يشار له بالبنان لأنه أظهر القدرات الحقيقية للأمة العربية عندما تستنفر طاقاتها وإمكانياتها وتوحد جهودها وتستثمر قدراتها وثرواتها في الاتجاه الصحيح وبهدف تحقيق غاية نبيلة ومشروعة تتمثل في الدفاع عن الكرامة وصد العدوان الصهيوني بهدف تحرير الأراضي العربية المحتلة.
وهنا فمن المهم الرجوع إلى شهادات حلفاء إسرائيل في الغرب والذين أدهشتهم القدرات العربية في حرب أكتوبر حتى ندرك جيدا الأهمية الاستراتيجية الكبرى للانتصار العربي في حرب أكتوبر عام 1973.
الرئيس الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون قال لوزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي يوم 31 أكتوبر 1973: «كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وكأمريكي وكريتشارد نيكسون فإنني أحترم هؤلاء الذين يحاربون جيدا ويضحون بأنفسهم. فأنتم حاربتم جيدا مثل الفيتناميين ونحن نحترم هذا وأرجو ألا تسيء فهمي إن الفيتناميين شيوعيون أنا أعني القتال والقتال جيدا.. الروح نفسها، ويجب أن أعترف بصفاتي الثلاث بأنكم قمتم بكل هذا بصورة جيدة».
المؤرخ العسكري الأمريكي ت. ديبوي كتب يقول: «إن التخطيط الماهر الذي قام به المصريون والسوريون الذي اتسم بالدقة الكاملة والسرية التامة وتحقيق المفاجأة الكاملة، وكذلك التنفيذ الكفء للخطط التي وُضعت بعناية، أدى كل ذلك إلى نجاح إحدى عمليات عبور الموانع المائية التي ستظل تذكر في التاريخ، ولقد كان العبور المصري إلى شرق قناة السويس في سيناء هو أعظم منجزات حرب 1973».
أما صحيفة واشنطن بوست الأمريكية 7 فقد كتبت في صباح اليوم التالي لبدء الحرب يوم 7 أكتوبر 1973 تقول: «إن المصريين والسوريين يبدون كفاءة عالية وتنظيماً وشجاعة، لقد حقق العرب نصراً نفيساً ستكون له آثاره المعنوية والنفسية في إسرائيل وكل منطقة الشرق الأوسط، كما إن احتفاظ المصريين بالضفة الشرقية لقناة السويس يعد نصراً ضخماً لا مثيل له تحطمت معه أوهام الإسرائيليين بأن العرب لا يصلحون للحرب».
أما مجلة نيوزويك الأمريكية في 14 أكتوبر 1973 فقد كتبت تقول: «إن كل يوم يمر في هذه الحرب يحطم الأساطير التي بنيت منذ انتصار إسرائيل عام 1967 وكانت هناك أسطورة أولا تقول إن العرب ليسوا محاربين وأن الإسرائيلي سوبرمان، لكن هذه الحرب أثبتت عكس ذلك».
مراسل وكالة رويترز الإخبارية العالمية كتب في تقرير له من الجبهة المصرية يوم 9 أكتوبر عام 1973 يقول: «لقد دهشنا بما شاهدناه أمامنا من حطام منتشر على رمال الصحراء لكل أنواع المعدات من دبابات ومدافع وعربات إسرائيلية كما شاهدت أحذية إسرائيلية متروكة على الأرض.. فلقد وضح تمامًا أن الإسرائيليين فقدوا المبادرة في هذه الحرب، وقد اعترف بذلك قادتهم ومنهم الجنرال شلومو جونين قائد الجبهة الجنوبية في سيناء».
أما مراسل وكالة يونايتد برس الأمريكية للأنباء في تل أبيب فقد كتب يوم 10 أكتوبر 1973 يقول:
«إن القوات المصرية والسورية قد أمسكت بالقيادة الإسرائيلية وهي عارية، الأمر الذي لم تستطع إزاءه القيادة الإسرائيلية تعبئة قوات كافية من الاحتياط لمواجهة الموقف إلا بعد ثلاثة أيام. لقد كان الرأي العام الإسرائيلي قائمًا على الاعتقاد بأن أجهزة مخابراته هي الأكفأ، وأن جيشه هو الأقوى والآن يريد الرأي العام في إسرائيل أن يعرف ما الذي حدث بالضبط ولماذا؟ والسؤال الذي يتردد على كل لسان في تل أبيب الآن هو لماذا لم تعرف القيادة الإسرائيلية بخطط مصر وسوريا مسبقًا؟».
صحيفة التايمز البريطانية كتبت في 11 أكتوبر 1973 تقول: «واضح أن العرب يقاتلون ببسالة ليس لها مثيل.. ومن المؤكد أن عنف قتالهم له دور كبير في انتصاراتهم.. وفي نفس الوقت ينتاب الإسرائيليين إحساس عام بالاكتئاب لدي اكتشافهم الأليم الذي كلفهم كثيراً أن المصريين والسوريين ليسوا في الحقيقة جنوداً لا حول لهم ولا قوة، وتشير الدلائل إلى أن الإسرائيليين كانوا يتقهقرون علي طول الخط أمام القوات المصرية والسورية المتقدمة».
أما صحيفة جويش كرونيكل البريطانية فقد كتبت في يوم 14 أكتوبر عام 1973 تقول:
«إن الشعور السائد في إسرائيل اليوم يتميز بالحزن والاكتئاب، كما أن عدد أسرى الحرب العائدين من مصر، كان أكثر مما كان متوقعا، الأمر الذي يعني وقوع الكثير من القتلى».
وهكذا نجد كثيرا من الشهادات الغربية عن عظمة الإنجاز العربي في حرب أكتوبر والسؤال الذي يتعين طرحه لتستفيد منه أجيال العرب الحالية والمستقبلية، هو لماذا حقق العرب هذا الانتصار التاريخي الذي أدهش العالم، وكيف يمكن أن نستفيد من ذلك في معاركنا المستقبلية؟
وللإجابة عن ذلك نشير إلى عوامل النجاح التالية:
أولا: امتلاك العرب روح التحدي ورفض الهزيمة والاستسلام كما تصور القادة الصهاينة بعد نكسة عام 1967، وقد جسدت ذلك بجلاء قرارات القمة العربية بالخرطوم والتي انعقدت بعد وقت قصير من النكسة واعلنت ما عرف باللاءات الثلاثة الشهيرة وهي: «لا تفاوض ولا اعتراف ولا صلح مع إسرائيل».
وهو موقف بدا للبعض غريبا في وقته وربما وصفه البعض بعدم الواقعية ولكنه موقف سجله التاريخ ليعكس إرادة أمة تأبى الضيم والهزيمة والهوان وتعلن عزمها على المقاومة والصمود والتحدي والتصدي للعدوان.
ثانيا: تجسيد روح التضامن العربي الحقيقي وتمثل ذلك في ارتفاع القيادات العربية آنذاك إلى مستوى المسؤولية التاريخية، فأنهوا الخلافات العربية وحققوا المصالحة في قمة الخرطوم وكان أبرزها المصالحة بين الزعيمين الكبيرين جمال عبدالناصر والملك فيصل، والاتفاق على أن تدعم الدول العربية النفطية الغنية دول المواجهة بما يمكنها من إعادة بناء قواتها المسلحة وإمدادها بالمال والسلاح، واعتبر الجميع معركة تحرير الأرض المحتلة هي معركة كل العرب ومعركة استرداد الكرامة العربية.
وقد امتد ذلك الموقف التضامني إلى ميدان المعركة ذاتها في حرب أكتوبر، اذ إن عددا من الدول العربية أرسلت بعد حرب 1967 مباشرة ألوية وكتائب عسكرية رابضت على خطوط المواجهة مع إسرائيل، منها قوات سودانية وعراقية وكويتية على الجبهتين المصرية والسورية، وبعد اندلاع المعارك في حرب أكتوبر 1973 أسهمت دول أخرى بقوات مسلحة مدرعة وميكانيكية بالإضافة إلى أسراب جوية، منها ليبيا والجزائر والمغرب وتونس والسعودية، أي إن الدعم لم يكن ماليا فقط ولكن كان أيضا بالجنود والعتاد العسكري والقوات المقاتلة في ميدان الحرب.
وكان من أبرز المواقف المشهودة للعرب في حرب 1973 قرار الدول العربية النفطية بحظر تصدير النفط العربي إلى الدول المساندة لإسرائيل وهو قرار أحدث زلزالا مدويا في كل العالم وأدى إلى أزمة وقود غير مسبوقة في أوروبا وأمريكا فيما عرف آنداك بـ «الصدمة النفطية»، وأسهم تاليا في تحقيق مكاسب كبيرة للعرب عبر ارتفاع أسعار النفط التي ارتفعت من نحو 3 دولارات للبرميل قبل الحرب إلى أكثر10 دولارات بعد الحرب ليرتفع تاليا إلى أكثر من 40 دولارا خلال السبعينيات ، ما جعل من العرب قوة اقتصادية وسياسية كبرى في النظام الدولي.
ثالثا: اعتماد العرب الأسلوب العلمي في الإعداد والتخطيط لخوض حرب أكتوبر، وذلك بالاعتماد على الكفاءات العسكرية المؤهلة من القادة العسكريين، ورفع كفاءة المقاتل العربي بالاعتماد على خريجي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ليكونوا القوام الأساسي للقوات المقاتلة ليتمكنوا من التعامل بكفاءة مع الأسلحة الحديثة، وهو ما ظهرت نتائجه بوضوح خلال المعارك من ارتفاع قدرة المقاتل العربي ليتفوق على الجندي الإسرائيلي الذي كان يتصور أن التفوق في ميدان القتال سيكون حليفه. وخاصة أنه في تلك الفترة كانت قد بدأت تظهر معالم الحروب الحديثة ممثلة في الحرب الإلكترونية والتي تحتاج إلى جندي مقاتل مؤهل علميا لاستيعاب الأسلحة الحديثة وللتعامل مع هذه التحديات العلمية والتكنولوجية والمعرفية.
رابعا: النجاح في تحقيق ما يسمى في العلوم العسكرية بـ«المفاجأة الاستراتيجية» أي القدرة على خداع العدو ومباغتته بشن الحرب قبل أن يكون قادرا على التصدي للضربة العسكرية الأولى في الحرب ما يفقده توازنه ويشل قدراته ويكبده خسائر فادحة في القوات والمعدات والأسلحة والتجهيزات.
وفي حرب أكتوبر 1973 احترم القادة العسكريون والاستراتيجيون العرب أهمية فكر التخطيط الاستراتيجي، والعمل على تحقيق مبدأ «الخداع الاستراتيجي وتحقيق المفاجأة الاستراتيجية في بدء الحرب». وكان ذلك ضروريا لامتلاك زمام المبادرة في الحرب، ما ضاعف من قدرات العرب وساعدهم على تحقيق النصر، في ضوء أن إسرائيل تعتمد في حشد قواتها على استدعاء قوات الاحتياط والتي تحتاج إلى نحو 3 أيام لتتمكن من تعبئة كامل قواتها.
لذلك لعب نجاح العرب في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية دورا مهما في تعظيم القدرات العربية على تحقيق الانتصار في حرب أكتوبر. ذلك أن عدم قدرة إسرائيل على التنبؤ بموعد ساعة الصفر التي سيشن العرب فيها الحرب ساعد مصر وسوريا على تحقيق المفاجأة الاستراتيجية وتحقيق التفوق العسكري خلال الأيام الأولى للحرب قبل أن تتدخل أمريكا بجسر جوي عسكري غير مسبوق لإمداد إسرائيل بأحدث الأسلحة والطائرات خوفا من إنزال هزيمة ساحقة بإسرائيل.
خامسا: النجاح في إعداد الشعوب وتهيئتها لمواجهة التحديات والاستعداد للحرب وتبعاتها ومخاطرها، وهو ما تحقق في سنوات ما بعد حرب 1967، إذ كانت حرب الاستنزاف بمثابة إعداد مزدوج للمقاتل في ميدان المعركة لاستعادة الثقة في قدراته القتالية، وتهيئة الشعب في الوقت ذاته لما تتطلبه جهود الاستعداد للحرب.
ولقد لعبت وسائل الإعلام دورا محوريا في تهيئة الجماهير العربية للإبقاء على زخم الصمود والتحدي والاستعداد للمعركة، حين تم رفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، الذي أصبح بمثابة عقيدة فكرية لدى الجماهير، الأمر الذي قاد في نهاية المطاف إلى أن تكون الشعوب العربية كلها في حالة استنفار، ومستعدة للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الأمة وخوض الحرب وتحقيق الانتصار».
لهذا، لا بد أن تكون هناك مصارحة بين القيادة والشعب عند خوض المعارك الكبرى، ولا شك أننا اليوم بحاجة إلى مشروع قومي استراتيجي كبير يعيد روح التضامن العربي ويستنفر الطاقات العربية من أجل نهضة حضارية كبرى تمكننا من حماية الأمن القومي العربي من ناحية، والولوج بكل عنفوان إلى اقتحام معارك التطور التكنولوجي والتقدم العلمي والنهوض الحضاري من الناحية الأخرى، ولعل تلك المعالم من أهم الدروس المستفادة من إعادة قراءة الموقف الاستراتيجي والملحمة العربية الرائعة التي جسدها العرب خلال حرب أكتوبر عام 1973.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك