العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الفساد الوبائي

عملت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحجري‭ ‬الثالث‭ ‬مخرجا‭ ‬ومنتج‭ ‬برامج‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني،‭ ‬وكان‭ ‬أن‭ ‬أتانا‭ ‬مدير‭ ‬جديد،‭ ‬وبعد‭ ‬أسابيع‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬توليه‭ ‬أعباء‭ ‬منصبه‭ ‬اتخذ‭ ‬قراراً‭ ‬بإنهاء‭ ‬خدمات‭ ‬130‭ ‬موظفاً‭ ‬وموظفة‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬واحد،‭ ‬وكانت‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬الإجراء‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬قاسياً‭ ‬أن‭ ‬أداء‭ ‬التلفزيون‭ ‬شهد‭ ‬تحسناً‭ ‬ملموساً،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الجيش‭ ‬الجرار‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬يرهق‭ ‬ميزانية‭ ‬التلفزيون،‭ ‬وكان‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬أنهيت‭ ‬خدماتهم‭ ‬يحتل‭ ‬مكاتب،‭ ‬بينما‭ ‬كنا‭ ‬نضطر‭ ‬إلى‭ ‬حفظ‭ ‬أشرطة‭ ‬الفيديو‭ ‬في‭ ‬الحمامات‭ ‬بعد‭ ‬تعطيل‭ ‬المواسير‭ ‬فيها‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬ضيق‭ ‬المساحة‭ ‬المخصصة‭ ‬لمكتبة‭ ‬الفيديو،‭ ‬وكانت‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬ممن‭ ‬تم‭ ‬طردهم‭ ‬غير‭ ‬معروفين‭ ‬لدى‭ ‬بقية‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬بمعنى‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يؤدوا‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬بل‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬تطأ‭ ‬أقدام‭ ‬بعضهم‭ ‬مبنى‭ ‬التلفزيون‭.‬

وزير‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬شقيقة‭ ‬وشقية‭ ‬أعلن‭ ‬مؤخراً‭ ‬اكتشاف‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬60‭ ‬ألف‭ ‬مواطن‭ ‬يتقاضون‭ ‬أجوراً‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمارسوا‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬وأن‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭ ‬منهم‭ ‬لم‭ ‬يبلغوا‭ ‬السن‭ ‬القانونية‭ ‬للعمل،‭ ‬يعني‭ ‬دون‭ ‬سن‭ ‬الـ18،‭ ‬وآلاف‭ ‬أخرى‭ ‬بلغوا‭ ‬سن‭ ‬التقاعد‭ ‬ولكنهم‭ ‬ظلوا‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتبهم‭ ‬على‭ ‬‮«‬داير‭ ‬المليم‮»‬‭ - ‬وفوقها‭ ‬بالطبع‭ ‬معاش‭ ‬التقاعد‭! - ‬وغيرهم‭ ‬يشغل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬حكومية‭ (‬على‭ ‬الورق‭ ‬طبعاً‭) ‬ويتقاضى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬راتب‭ ‬واحد‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬فقد‭ ‬نوري‭ ‬الهالكي‭ (‬كذا‭ ‬بالهاء‭) ‬منصبه‭ ‬كرئيس‭ ‬لوزراء‭ ‬العراق‭ ‬ووزير‭ ‬للدفاع‭ ‬والأمن‭ ‬والآثار‭ ‬والمياه‭ ‬الجوفية‭ ‬وشؤون‭ ‬الأوزون‭ ‬قبل‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬ليس‭ ‬بالطويل،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬هرب‭ ‬الجنود‭ ‬العراقيون‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬مدن‭ ‬تعرضت‭ ‬لهجمات‭ ‬داعش‭ ‬لقلة‭ ‬العتاد‭ ‬الحربي‭ ‬وبؤس‭ ‬القيادة،‭ ‬اتضح‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭ ‬وهمي‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬العراقي‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬وبدلات،‭ ‬وأن‭ ‬تلك‭ ‬الرواتب‭ ‬تذهب‭ ‬الى‭ ‬جيوب‭ ‬نحو‭ ‬خمسين‭ ‬شخصا‭ ‬فقط‭.‬

وفي‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية،‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬المتواضعون‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬عن‭ ‬وظيفة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ (‬يا‭ ‬عيني‭) ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تطأ‭ ‬أقدامهم‭ ‬المكاتب‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أنهم‭ ‬يعملون‭ ‬فيها،‭ ‬وذلك‭ ‬الوزير‭ ‬العربي‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬عدد‭ ‬العمالة‭ ‬الوهمية‭ ‬تلك‭ ‬60‭ ‬ألفاً،‭ ‬وأنا‭ ‬أقول‭ ‬له‭: ‬فيك‭ ‬الخير،‭ ‬خليها‭ ‬160‭ ‬ألفاً،‭ ‬لأنه‭ ‬العدد‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬التصديق‭ ‬والواقعية،‭ ‬ولو‭ ‬تم‭ ‬إجراء‭ ‬مسح‭ ‬دقيق‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ذات‭ ‬الكثافة‭ ‬السكانية‭ ‬العالية‭ ‬لاتضح‭ ‬ان‭ ‬المستهبلين‭ ‬الذين‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬بالأوانطة‭ ‬من‭ ‬الحكومات‭ ‬يصل‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬مليون‭.‬

في‭ ‬ختام‭ ‬سنة‭ ‬مالية‭ ‬خلال‭ ‬الحكم‭ ‬زورا‭ ‬باسم‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬السودان‭ (‬ما‭ ‬بين‭ ‬1989‭ ‬و2019‭) ‬اكتشف‭ ‬مراجعو‭ ‬الحسابات‭ ‬أن‭ ‬سلطات‭ ‬إحدى‭ ‬الولايات‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬البلاد‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬السخاء‭ ‬بدرجة‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تدفع‭ ‬رواتب‭ ‬لمئات‭ ‬الموتى،‭ ‬والمفصولين‭ ‬من‭ ‬الخدمة،‭ ‬وبلغ‭ ‬الكرم‭ ‬بتلك‭ ‬السلطات‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تمنح‭ ‬ساكني‭ ‬القبور‭ ‬علاوات‭ ‬سنوية‭ ‬وترقيات،‭ ‬وبدلات‭ ‬‮«‬مهام‭ ‬رسمية‮»‬‭.‬

تذكرت‭ ‬‮«‬منسي‮»‬‭ ‬صديق‭ ‬الروائي‭ ‬السوداني‭ ‬الطيب‭ ‬صالح،‭ ‬والذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬ترك‭ ‬الطيب‭ ‬لعمله‭ ‬في‭ ‬إذاعة‭ ‬هنا‭ ‬لندن‭ (‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬منسي‭ ‬يعمل‭ ‬مدرساً‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬ويشغل‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬وظيفة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬بذلك،‭ ‬فكان‭ ‬يسند‭ ‬إليه‭ ‬بعض‭ ‬الأدوار‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬الإذاعية،‭ ‬فيتقاضى‭ ‬نظير‭ ‬ذلك‭ ‬مكافأة‭ ‬كبيرة،‭ ‬علماً‭ ‬بأن‭ ‬مكافأة‭ ‬المتعاون‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الهيئة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مكافأة‭ ‬العامل‭ ‬في‭ ‬الهيئة،‭ ‬وحسبت‭ ‬إدارة‭ ‬الإذاعة‭ ‬أن‭ ‬الطيب‭ ‬‮«‬تعمد‮»‬‭ ‬مجاملة‭ ‬صديقه‭ ‬ومنحه‭ ‬مكافأة‭ ‬لا‭ ‬يستحقها،‭ ‬ولأن‭ ‬الطيب‭ ‬سوداني‭ -‬وبالتالي‭ ‬رأسه‭ ‬ناشف‭- ‬فقد‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬تهمة‭ ‬المحاباة،‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬اعتقاده‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يجوز‭ ‬لإدارة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬مجرد‭ ‬إساءة‭ ‬الظن‭ ‬به،‭ ‬وانتهى‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬مستقيلاً‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬بالإذاعة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مرشحاً‭ ‬لتبوء‭ ‬أعلى‭ ‬المناصب‭ ‬فيها‭.‬

ولن‭ ‬تقوم‭ ‬لنا‭ ‬قائمة‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬الأجهزة‭ ‬الحكومية‭ ‬عندنا‭ ‬تدار‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬خيري‭: ‬خلق‭ ‬وظائف‭ ‬وهمية‭ ‬وتكديس‭ ‬الموظفين‭ ‬في‭ ‬الدواوين‭ ‬لـ»محاربة‭ ‬البطالة‮»‬‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا