كالعَادَة اسْتَيقَظتُ مُبكراً على صَوْت أبواق السَيَّارات والضَوْضاء النَاتجة منّ حركة النَّاس، دلكتُ عيناي ثم نهضتُ من على السَرِير لأسَتديل السَّتار عن النافِذة التي تطل على الشارع العام ولم تكن نافَذة للضوء والتهوية فقط بَلْ بمثابة شاشةُ تِلفاز بالنسبةِ إلي أشاهد مِن خلالِها سينمائيات الصباح وأول مشهد رأيتهُ في هذا اليوم هو قُدُوم الحاجة أَمَّ سالم وأحفادِها الأيتام ليجمعُوا عُلب الكولا الفارغةِ المرمية في أكوام النفايات لأجل بيعِها لكسب ثمن القُوت اليومي، أتأمل الأطفال جيداً فأرى طفُولتَهم المؤجلة تمشّي خلفهم وأحلامهم الهَاربة تنظر إليهم من بعيد بِالإضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ يتَّضَح أَنَّ الهُمُوم التي تحمُّلها العجوز في قلبِها تكون أكثر وزنّاً منّ أكياس النفايات المحمولةِ فَوْقَ رأسِها. أما الفيلم القصير الثاني اِزدِحاماً اكتَظَّت بهِ الطُرق بسبب مرور موكب المركبات الفخمة المصفَحة التابع لإحدَى عوائل المسؤولين في الدولة والحمايات تحيط بالموكب مِن كلُّ جانب، وهُنا تقف الفلسفة الاجتماعية في موقف الحَيْرة والاضطراب ما بينَ المشهدين وأيّ مخرج عظيمٌ هذا الذي استطاع أنّ يُدمج هَذين المشهدين في آنٍ واحد! علامات الاستفهام كثيرة والأجوبة مؤجلة إلى شعار آخر، وهذا ما دفعني إلى إغلاق النافذة. ذهبتُ إلى دورة المياه لأغتسل وأزيحَ جثث الأحلام التي لاقت حتفها تحت جفني، وجبة الفطور انضافت إلى الأجوبة لأنَ الطعام وَدَعَ الثَّلاَّجَة قبل يومين ولم يتبق سوى الخبز المتعفِّن. رَجَعْتُ إلى الغُرفة وفتحتَ خزانة الملابس وانتشلت معطفي ذي اللون الرصاصي المزرق والبنطلون الجينز والوشاح الأسود اشتريتها من أسواق الأزياء المستعملة بمناسبة أعياد رأس السنة الميلادية، لبستُ الملابس المذكورة وانتعلتُ حذاء حارس العمارة المتروك عند الباب بعدما تَأَكَّدت أَنَّهُ لا يزالَ نائماً. نزلتُ على سلّم الشقة بهدوء وحذر لِكَيْ لا تنزعج جارتنا المتزوجة بأكثر من شخص ولا أعرف كيف وحتى لا يراني صاحب العمارة السيد متحت الذي يُريدَ منّي أجور السكن المُتراكمة علي، طالَ وقفي بالتقاطع عشر دقّائق اتَرَقّب مَجِيء مركبات النقل العامَ.. الطَقْس كانَ بَارِدا قاتما ومن سوء حظّي المركبة التي أَقْبَلَت خَالِيَة من الركاب فلن أستطع أنّ أختلس على السائق ثمن الأجرة مثل كلّ مرة. بَيَنَما كُنْتُ أتَفَحص حركة المارة مَن وَراء زُجّاج الحَافِلة تساءلتُ مع نفسي متفلسفاً.
كيف تتغير الدُّنْيَا كلَّ يوم وبأي سرعة يرحلُ الناس ومن الذي يمحو آثار خطواتهم؟ متى تُرفع الحواجز الشفافة التي تفصل بين أبناء الطين لدواع مزيَفة؟ كَيْف للمَرْء أنّ يُغَيِّر مِن سردِ قصتهِ بعض الأحداث؟ بعد مدّة قصيرة وصلتُ إلى الجامعة وبدون مباهاة كلّما أقترب من باب الدخول أحاول أنّ اخلَعْ رِداء القيّم والمبادئ التي تربيتُ عليها لِكَي أستوفي على الحريّة الكاملة، وَلَكِن لم ولن أتمكن من ذلك. قرّرت الذّهاب إلى نادي الجامعة أو ما يعرف بالكافتيريا لأحتسي الشاي وألتقي بِبَعْض الأصدقاء، جلستُ بالزاوية الاخيرة في النادي، أغلبيّة الطّلبة الجالسين حولي متكلفون بالتصنع حتّى في ابتساماتهم، وما يُثير حفيظتي أكثر هو التجمهر الذي يقيمهُ بعض الطلاب المتملّقين حولَ ابن أحد التجّار الكبار يذكرني بمشهد للقطط في حينا عندما تحيط بذيل سمكة مرمي عِنْدَ حاوية النفايات. يَا لَيْتَنِي أملك المال الوفير والسيارة الحديثة لِكَي أتمكن من التقرّب إلى تلكَ الفَتاة، سأحاول بالقدر الممكن أنّ أبْتاع قميصاً مثل القميص الذي يرتديه ذَلِكَ الطالب، غداً هو نِهاية الأسبوع لعلَّني أحصل على فُرصة عمل، لأتهم المسافة الطّويلة سأعود من الجامعة راجلاً لِكَي أوفّر المصروف لِشراء قطعة ساندويش. تَبَصّرتُ هذهِ الجمل الأربع في عيون بعض الطلبة المُنتشرين أمامي، وأنا هُنا لا اعرف هل أَيَّد أو أَبْطَلَ فكرة أفلاطون في نظرية المثل. الوقت الآن التاسعة صباحاً في توقيت بغداد سأنصرف إلى قاعة المحاضرات. بعدَ انتهاء المحاضرة الأولى خرجت من القاعة ماشياً بهدوء مباغت فُوجئت بصوت أنثوي يُنادي بقَفَاي أنت يا ولد توقف، التفتُ نَحْو مصدر الصوت، يا للهول هذه الطالبة التي أهجمُها بالنظرات كلّما أراها بسبب أعجابي بِهَا أين أنتِ عن ابنكِ يا أُمّي. هل تُنادين علَّي؟ نعم.
تفضلي ماذا تُريدين؟ لماذا عندما تَراني تبتسم وتحدّق كالأسد عندما يَرَى الفريسة قد تجعلَّني بِموقف محرج أمام زميلاتي؟
بطبيعة الحال الأسد يشبهني كثيراً! اترك المزاح وأجب عن سؤالي.
لا مانع عندكِ إذّا كانَ جوابي بسؤال لكِ. لا مشكلة قل ما عندكَ.
عندما تتجولين في معرض الوحاة والرسم هل هُنَاكَ شيء يستوقفكِ؟
بالتأكيد ألمَح لوحة خلاَّبة فتستوقفني لأنظر إليها بشغف وَلَكِن ما علاقة هذا بسؤالي؟
لِمَ لا وأنا أيضاً أراك لوحة جميلة تستحق النظر في هذا المعرض الذي فرضَ علي أنّ أعاين بصمت وأمضي نَحْو العدَم. رَمَقَتني بعينيها البراقتين وهي تقول لِي إنكَ تتفلسف. لا أبداً هذه هي الحقيقة.
رُبما يبدو لي انك تخفي جواباً آخر أليس كذلك؟ نعم بالطبع يوجد تفسير لَيسْ طويلاً بَلْ كلمة واحدة وأكثر حقيقة من التفسير الأول وَلَكِن لا أمتلك الشجاعة الكافية لأتفوه بهِ. وَمِن منّ تخاف؟ من ما وراء الكلمة. أصابها السكون وأنا ذهبتُ عنها واضعاً يداي في جيوب المعطف وتمتمتُ مبتسماً الموناليزا الناطقة تُرِيد منّي أنّ أقولُ لها إِنَّنِي أُحبّها وأنا لا أملكُ حِذاء.
{ قاص وكاتب من العراق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك