زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وتخليت عن حلم الثراء
غادرت السودان بعد الزواج بأشهر قليلة وضربت في الأرض طلبا للرزق الحلال، وعملت في السعودية وقطر والامارات وبريطانيا، مجاهدا لـ«تكوين النفس»، أي الحصول على ذخيرة مالية، تجعلني قادرا على إعالة عائلتي الصغيرة والممتدة، وعندما قادتني المقادير إلى بريطانيا «خبيرا أجنبيا» وتزامن ذلك مع تدشين اليانصيب الوطني «اللوتري»، تحول الهذيان بتكوين النفس إلى «خطرفة»، وكنت كلما اشتريت تذكرة لوتري جلست أدرس أسعار العقارات في «كان» و«نيس» و«الريفييرا»، بل وكثيراً ما ذهبت إلى المكتبات العامة لتقصي أخبار يخت كان مملوكاً للمليونير المعروف (سابقا) عدنان خاشقجي، لأنني سمعت أنه باعه لشخص آخر، وكنت حريصاً على إعادة اليخت إلى «الحظيرة العربية».
وذهبت إلى أبعد من ذلك عندما واظبت على شراء المجلات النسائية، رغم كرهي الشديد لمعظمها لركاكة وغثاثة محتوياتها، وكان الغرض من شرائها هو البحث عن عروس «تكنولوجية» تناسب اليخت!!
وبعد أن استنزف اللوتري مدخراتي وقوت عيالي أدركت إن الله لا يريد لي الثراء الحرام، فأعلنتها توبة نصوحا، وطفقت وبمباركة أم العيال – في البحث عن عزباء أو مطلقة أو أرملة غنية «تسيِّدني» وهذه صيغة التذكير من «تستتني» التي تقال عن معاملة الزوجة كـ«ست» مدللة، ولأن أمي كانت كثيرة التغزل بمحاسني فقد رأيت أن مجرد نشر صورتي في صحيفة أو مجلة كفيل بجعل الحسناوات يتهافتن علي كتهافت الفراش على الضوء والنحل على الورد، وهكذا، وعندما طلب مني رئيس الوزراء البريطاني، وبإلحاح شديد من وزير التراث الوطني البريطاني ومجلس إدارة بي بي سي، أن احرر زاوية في مجلة «المشاهد» التي كانت تصدرها بي بي سي (باعتها لاحقا وصار اسمها «المشاهد السياسي») قبلت بعد طول تدلل بشرط أن توضع صورتي في أعلى الزاوية.
وذهبت إلى أشهر استوديو فوتوغرافي في لندن والتقطت عدة صور، وطفق الفنيون يدخلون عليها التعديلات والرتوش، ولكن «مفيش فايده». أحسست أن الصور لم تنصفني، فلجأت إلى ارشيفي الخاص إلى أن عثرت على صورة لي عندما كنت بالسنة الأولى في الجامعة، وكان شكلي وقتها «ابن ناس» بعض الشيء، وقدمت الصورة إلى إدارة المجلة، وفي اليوم التالي تلقيت اتصالاً هاتفياً من رئيس التحرير قال فيه إنهم في انتظار صورتي، فقلت: الله!... كيف؟.. لقد قمت بتسليم... ولم أكمل الجملة، فقد أدركت أن صاحبنا لم يجد صلة بين الصورة وكاتب الزاوية، فتواضعت أكثر وقدمت إليهم صورة التقطتها بمناسبة استلامي لأول راتب بعد دخولي الحياة العملية، وأفهمتهم أن هذا «آخر كلام عندي». وتوالى نشر مقالاتي مصحوبة بالصورة وجلست في البيت في انتظار مكالمات المعجبات والراغبات في الزواج، وقد كنت في غاية التواضع حيث قررت التركيز على الحسناوات السمر والسوداوات لأسباب لا تغيب عن ذهن من يعرف أنني أنتمي إلى السودان. وهكذا جلست أنتظر مكالمات من ناومي كامبل وسمراوات هوليوود.
وبعد أشهر طويلة أتاني سعد باشا زغلول في المنام وقال لي: مفيش فايدة. وأدركت بعدها أن الحسناوات ذوات الجاه والثراء قصيرات النظر وقليلات الفهم. وسارت الأمور من سيء إلى اسوأ عندما أبلغني رئيس تحرير المجلة على استحياء أن العديد من القراء أرسلوا برقيات غاضبة يطالبون فيها بإزالة صورتي من المجلة بأثر رجعي، ولم انفعل لذلك في بداية الأمر لاعتقادي أن القراء يغارون مني، ولكن صاحبنا أفهمني أن معظم تلك البرقيات من «قارئات»، وهنا أدركت أن حواء، اياً كان جنسها، ذات ذوق تالف، وتذكرت قول الشاعر علقمة بن عبده الفحل:
يردن ثراء المال حيث يجدنه / وشرخ الشباب عندهن عجيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله / فليس له من ودهن نصيب
وهكذا رضيت بالقسمة والنصيب وتخليت عن أحلام الثراء، وأصبحت عدواً للمرأة باستثناء أم العيال التي رأت فيّ ما لم تره الأخريات، وتحملت هذياني و«خطرفاتي» وبؤس حالي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك