زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كثير النسيان ولست مخرِّفا (5)
عانيت ومازلت أعاني من اتهام زوجتي لي بالخرف والعته، لأن ذاكرتي صارت غربالا/منخلا تتسرب منه المعلومات فور دخولها فيه، رغم أن كل ما هناك هو أنني أعاني من النسيان غير الضار، مثل عدم قدرتي على الدوام على تذكر المكان الذي تركت فيه مفتاح السيارة، أو النظارة، وعانيت مرة واحدة من النسيان غير الحميد عندما كانت هي مسافرة معي الى جدة في السعودية ونسيت أمرها منذ لحظة الهبوط من الطائرة ولم أتذكر أنها معي إلا وأنا أقدم جوازي سفر لشرطي الجوازات في المطار الذي نظر إلي مرتابا بعد ان حسب انني استخدم جوازي سفر أحدهما نسوي، في عمليات إجرامية، ولم ينقذ الموقف الا وصول المدام والشرّ (براء واحدة) يتطاير من عينيها.
المخ البشري مذهل وعجيب. نعم أشكو من آفة النسيان ولكنني أستطيع ان أتكلم عشرين ساعة متواصلة عن تاريخ السودان الحديث، والحرب العالمية الثانية وشطحات الحزب الجمهوري الأمريكي منذ نصف قرن، موردا أدق التفاصيل والمواقيت. ولكنني نسيت ان أزور صديقي الذي أجرى عملية قلب مفتوح رغم انني بقيت خارج غرفة العمليات وغرفة الانعاش يوم خضع للجراحة طوال 12 ساعة. وقبلها اصطحبت ابنتي الى عيادة خاصة وقلت لها انني سأزود سيارتي بالبنزين وأعود اليها قبل موعد مقابلتها للطبيب. وشربت سيارتي كفايتها من البنزين وانطلقت الى مكتبي وجلست أقلب الأوراق على أمل ان أتذكر «لماذا عدت الى المكتب في غير ساعات عملي المعتادة؟» ثم رن هاتفي الجوال وجاءني صوت ابنتي: خير يا بابا انت كويس؟ قلت لها نعم انا بخير ولكن منذ متى صرت حنينة وتتفقدين حال بابا؟ صاحت وهي تخنق دموعها: بابا انا في العيادة في انتظارك أكثر من ساعتين! خير يا بنتي.. رحتِ العيادة ليه ومع مين؟ هنا جاءني الرد السخيف: فعلا كلام ماما صح وانت خرَّفت.
قبل أعوام سمعت بإصابة صديق «عبد الصمد» لي في حادث مروري فهرعت الى قسم الطوارئ في المستشفى ووجدته مغطى بالدماء.. كان يعاني من كسور في الأضلاع والرأس واليد والكتف وينزف من فمه وأذنه وأنفه.. كنت مضطربا ومنهار القوى وأنا أرى الأطباء والممرضين منهمكين في إسعافه وهو في غيبوبة. وفجأة سمعت اسمي وتلفت فلم أجد شخصا أعرفه بغرفة الطوارئ ولكن طبيبا التفت إلي وسألني: أنت جعفر؟ قلت نعم، فقال لي: «المريض فتح عينه ونطق باسمك، اذهب وكلمه وشجعه على ان يفتح عينيه ويواصل الكلام معك».
وعملت بتوجيهات الطبيب وفتح عبدالصمد عينيه مجددا ونطق باسمي وسألني: هل سأموت؟ امتلأت عيناي بالدموع وجاهدت لإخفائها ولحسن حظي كان قد راح في غيبوبة ثانية، ثم فتح عينيه وقال: اتصل بأصدقائي فلان وفلان وعلان وأبلغهم بما حصل ونطق بأرقام هواتفهم. واتصلت بالأرقام تلك وكانت «صحيحة». وبعدها بدقائق قال: أمي في مكة لأداء العمرة ولا أريد لها ان تعرف بالحادث فاحرص على عدم تسريب الخبر خارج دائرة أصدقائي الثلاثة وأنت. ذهلت لأن أمه بالفعل كانت في مكة، فبرغم أنه كان بين الحياة والموت كان يتذكر أشياء مهمة بدقة. ثم طلب مني ان اقترب منه وامسك بيدي بقوة وظل ممسكا بها وهم ينقلونه من قسم الأشعة المقطعية الى قسم أشعة إكس.. كل ذلك وهو يتوه أي يغيب عن الوعي ويعود.. وبعد تحسن حالته نسبيا تم تسفيره الى الولايات المتحدة لاستكمال العلاج وبعد عودته عاتبني: عيب يا جعفر... جميع أصدقائي زاروني يوم الحادث وبعده وأنت لم تزرني ولا مرة واحدة! لم يكن يذكر شيئا مما دار بيننا يوم الحادث ولا الأيام التالية.. ألم أقل لكم ان المخ البشري عجيب ومذهل؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك