زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كثير النسيان ولست مخرِّفا (3)
طمأنني البروفيسور الأمريكي جورج غروسبيرغ المختص في علاج مرض العته والخرف (ألزهايمر) في كلية الطب بجامعة سانت لويس الأمريكية، بأن معاناتي مع النسيان ليست دليلا على انني مصاب بذلك المرض، بل منشؤها أن رأسي صار مشحونا بحمولة زائدة ولا سبيل لإضافة معلومات جديدة إليه إلا بمسح بعض القديم منها، تماما مثلما صرنا نفعل مع الكمبيوتر، عندما تأتينا إشارة بأن القرص الصلب (هارد دِسْك hard disk) ممتلئ ولا يمكن تخزين مادة جديدة فيه فنقوم بزيادة طاقته الاستيعابية بما يسمى بلغة الفرنجة «أبغريد upgrade».
وعملية المسح المطلوبة من ابن آدم، كي يصبح الدماغ قابلا لاستقبال وتخزين المعلومات الجديدة، هبة ربانية اسمها «النسيان»، بل يقول بعض علماء اللغة إن كلمة «إنسان» مشتقة من النسيان، لأن النسيان من طبيعة البشر، و«جَلَّ من لا يسهو»، أي ان الخالق جلّ وعلا وحده الذي لا ينسى. المهم ان غروسبيرغ يقول إن من صار مثلي يعاني من نسيان مكان المفاتيح او يدخل البقالة ليشتري عصيرا ويخرج منها وقد اشترى علبة من السجائر رغم أنه توقف عن التدخين منذ عشرين سنة أمره هين، طالما انه لا ينسى أنه متزوج ويتقدم للزواج بأخرى ويقدم بطاقة دعوة للفرح لزوجته (على أساس انها إحدى قريباته)، وطالما أنه لا ينسى أساسيات عمله.
أعرف محاميا سودانيا بارعا عملاءه من الهوامير الكبار أصحاب الملايين يعاني من النسيان، وذهب صاحبنا ذات مرة إلى قسم الطوارئ في المستشفى حاملا ولده الصغير الذي كان مصابا بجرح غائر، فسأله موظف الاستقبال عن اسم الولد فتلجلج صاحبنا وظل يقول للولد: قول لعمو شنو اسمك.. يللا يا شاطر.. عمو يسألك عن اسمك.. وشكَّ الموظف فيه بحسبانه شخصا لا صلة له بالطفل وتسبب في إيذائه ثم تحرك ضميره ويريد توفير العلاج له ثم «الهروب» من المستشفى، وقام باستدعاء شرطي، وبالطبع فقد حسب الشرطي صاحبنا مجرما عندما عجز عن تذكر اسم ابنه. ونجا المحامي من التهمة لأن شخصا يعرفه تقدم لتحيته، فسأله الشرطي عن مدى علاقته به وما إذا كان يعرف شيئا عن سجله الاجرامي، وما كان من ذلك الشخص إلا أن انفجر ضاحكا وحدث الشرطي عن نوادر المحامي مع النسيان والتوهان وشرود الذهن، منها أنه دخل يوما مكتب القاضي (أقسم بالله أنها وقائع حقيقية) حيث كانت تُنظر القضايا البسيطة، وبعد الحصول على تأجيل جلسة لأحد موكليه خرج المحامي تاركا مفكرته السوداء على طاولة كانت على يمين القاضي، وحاملا معه المصحف الذي كان في ذلك الموضع ودخل المحكمة خلق كثير وأقسموا واضعين أيديهم على مفكرة المحامي إلى أن انتبه محام آخر إلى أن الكتاب الموضوع أمام موكله ليس مصحفا شريفا، ونبه القاضي إلى ذلك، وبدون تردد صاح القاضي: سواها الزول.. حسبي الله عليه!! كان القاضي على علم بمعاناة المحامي العجيبة مع النسيان والتوهان. والغريب في أمر هذا المحامي أنه موسوعي المعرفة في الشؤون القانونية، ولا ينسى مواعيد جلسات المحاكم، ولكنه كثيرا ما ينسى وجوه وأسماء موكليه.
ومن أسخف النصائح التي يقدمها بروفيسور غروسبيرغ لأمثالي هي أن يكتبوا الأشياء المهمة التي يودون تذكرها.. ظللت أفعل ذلك سنوات ولكنني لا أتذكر اين وضعت الورقة التي كتبت عليها تلك الأشياء، بل قد أنسى انني كتبت «مذكرة».. وهكذا نصحني بتناول جرعات منتظمة من فيتامين ب12 وأخذ كفايتي من النوم، والعمل على السيطرة على معدلات ضغط الدم والكولسترول.. واختتم نصائحه بكلام بايخ يسد النفس: من الطبيعي ان تتعرض الذاكرة للضعف بعد سن الخمسين.. وهذا الكلام هو الذي جعلني اهتدي الى أسلوب غير طبي للتغلب على آفة النسيان الناجمة عن التقدم في السن.
ونلتقي غدا بإذن الله
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك