عالم يتغير
فوزية رشيد
كيسنجر: إنقاذ البشرية أم إنقاذ الهيمنة الأمريكية؟!
{ من الواضح أن الولايات المتحدة، ومنذ الحرب العالمية الثانية، لم تضع في أجندتها قط، حماية العالم وأمنه واستقراره، وحماية البشرية من شرور سياساتها الخارجية، أو العلمية أو التكنولوجية أو البيئية أو حتى الفوضوية الأخلاقية! لأن تفكيرها، بحسب «الرؤية المصلحية والمنفعية»، منحصر في كيفية السيطرة والهيمنة، والاستمرار على عرش القوة العسكرية والمالية والاقتصادية! ولا يهمّ بعد ذلك ما تختطه من (ديماغوجية أو تطرف)! وقد كان «كيسنجر» الذي احتفل بميلاده قبل فترة (100 عام) هو ومن خلال المناصب التي احتلها كوزير للخارجية وفي الأمن القومي الأمريكي، كان المستشار والعقل الذي أدار السياسة الأمريكية ومفرداتها عقودا طويلة، ومهمته في ذلك لم تنته كما يبدو، ما جعله يزور الصين مؤخراً، ويلتقي الرئيس الصيني وعدداً من أهم وزراء وقادة الصين، في وقت يشتعل فيه التنافس الأمريكي - الصيني في المجالات كافة!
{ لم تكن زيارة «كيسنجر» صدمة في هذه المرحلة، التي ذكّر بها (أن الظروف العالمية اليوم تشبه ظروف ما قبل الحرب العالمية الأولى)! ولكن هذه المرة آليات الحرب التي يدخل فيها «الذكاء الاصطناعي» والتكنولوجيا لن تكون نتائجها كما كانت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية! وإنما أكثر فتكاً وضراوة على البشرية كلها بما لا يتخيله العقل!
ولأن الحوارات التي دارت اتسمت بالسرّية وقلة التسريب في المعلومات! ورحلة «كيسنجر» إلى الصين تأتي بعد رحلته الأولى في السبعينيات، والاستقبال الحار الذي حظي به هناك! يبدو أن السياسة الأمريكية تعوّل عليه كثيرا! وحتماً لم يكن هدف «كيسنجر» هو التفكّر في (إنقاذ البشرية) من ويلات حرب ساحقة بين الولايات المتحدة والصين، وإنما هو التفكّر الأمريكي عن طريق «ثعلب» سياسته منذ زمن طويل، في كيفية التوصل إلى «هدنة مرحلية» تخفف من الأعباء الأمريكية في دعمها المتواصل للحرب في أوكرانيا ضد روسيا! إلى جانب الإشكاليات المختلفة المتعلقة بالنفوذ الأمريكي وهيمنتها على العالم!
{ الولايات المتحدة تحتاج إلى (حياد صيني) في الأزمة الأوكرانية، وعدم وصول العلاقات الصينية – الروسية إلى مرحلة (التحالف الاستراتيجي الشمولي!)، لأن ذلك وحده هو ما يخيف أمريكا! وهو نفسه الذي حذّر منه «كيسنجر» أن (أكبر المخاطر على الولايات المتحدة والغرب هو حلف الشرق، الصين وروسيا تحديداً، ضد النفوذ والهيمنة الأمريكية) وهو ما يحدث اليوم!
نقطة أخرى مهمة هي: ضراوة التنافس الإلكتروني والتكنولوجي والصناعي والتجاري، الذي يجعل من الصين أكبر القوى العالمية المنافسة في تلك المضامير لأمريكا، بل تتفوق عليها في بعض المجالات!
المسألة الأخرى: هي مسألة «تايوان» التي قد تجعل بحر الصين في أية لحظة بؤرة الاحتكاك المباشر بين أمريكا وحلفائها، والصين وحلفائها!
نقطة أخرى: هي المنظمات الدولية الجديدة مثل «بريكس» و«شنغهاي» بقيادة صينية، قد تكون سبباً مباشراً في تهميش التعامل الدولي والعالمي بـ(الدولار) نحو العملات المحلية! خاصة أن الوقت يتضاءل أمام القمة القادمة للمشاركين في «بريكس» واحتمالية توسع المنظمة وانضمام دول أخرى فيها!
{ كثيرة هي القضايا التنافسية بين الرؤية الأمريكية والرؤية الصينية للعالم وللتعامل الدولي (اقتصاديا وماليا وتجاريا)! خاصة في ظل التغلغل الصيني والروسي في مناطق نفوذ دولية، كانت حكراً للولايات المتحدة أو قوى أوروبية أخرى، كإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية! وقد شهدت إفريقيا مؤخراً قمة جمعت بين روسيا وإفريقيا والاتفاق على التحوّل إلى (التسويات المالية بالعملات الوطنية) وكما قال (بوتين): «تم اتخاذ مواقف لتحدي النظام الاستعماري) قاصداً نظام الغرب الاستعماري بقيادة أمريكا!
بدورها المتحدثة باسم الخارجية الروسية «زاخاروفا» فضحت سياسة الغرب بالتعامل مع الدول التي رفضت معاداة روسيا، وهي تقول على لسان الغرب «عليكم بمعاداة روسيا أو ستنقطع عنكم المساعدات) والمساعدات تعني ديون «صندوق النقد الدولي» المجحفة ضد الدول المدينة! وفي هذه الرؤية الروسية لا تختلف الصين بل تتفق كثيراً، لولا بعض الإشكاليات المصلحية والنفعية بينها وبين أمريكا وبعض الدول الأوروبية!
{ هل نجح «كيسنجر» في ترويض الرؤية الصينية؟! هل وصل مع الرئيس الصيني إلى تنازلات تقدمها أمريكا مقابل تلبية المطالب الأمريكية؟! هل «الهدنة السياسية» إن حدثت ستكون مرحلياً قصيرة، لأن التضارب بين الرؤيتين الصينية والأمريكية هو تضارب كبير؟! هل لغة (القوة الشمولية) التي تستخدمها أمريكا، بإمكانها أن تتغيّر، ولكن مرحلياً، حتى تسترجع أمريكا أنفاسها، وهي ترى التراجع الكبير في نفوذها، وبعدها ليحدث «الصدام الكبير»! ولتذهب البشرية إلى الجحيم، قرباناً لاستمرار الهيمنة الأمريكية؟! هل حدث تفاهم حول (اقتسام) مناطق النفوذ والمصالح في العالم، وحيث الصين تنظر إلى ذلك بدورها كخطوة مرحلية، إلى حين تقلص أكبر للهيمنة الأمريكية الاستعمارية على المستوى العالمي؟!
يبدو أن كاهل «كيسنجر» كان مثقلاً بكل الأمور والمسائل الكلية والاستراتيجية! وهو يشهد في آخر حياته حجم التحولات في العالم، والتي لن ينفع معها (مكره) أو (خبرته) في اندفاعها! أما حكاية إنقاذ البشرية فتلك آخر هموم أمريكا!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك