عالم يتغير
فوزية رشيد
التفاهة والفقر الفكري والإنسان الآلة!
{ منذ أن كتب الفيلسوف الكندي (آلان دونو) كتابه الذي أصبح شهيراً، وهو كتاب «نظام التفاهة»، أصبح العنوان ذاته رائجاً في كل المجالات، لأن الواقع أصبح يسيطر عليه التافهون! وكما يقول المؤلف «إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير الزمن زمن الحق والقيم»!
هكذا تولّدت في هذا العالم «مجتمعات التفاهة»، وأصبح للتفاهة فلسفة ومنهجية وتقنيات ملاصقة (للفقر الفكري) الذي ينزل بالمعرفة إلى درك قدرات غير العارفين! ليتصدر التافهون «مواقع التأثير» في كل مجال، ولكأنه عالم يحيلنا إلى الأغبياء! كمثال («مواقع التواصل» التي نجحت في ترميز التافهين، أي تحويلهم إلى رموز.. صار يمكن لأية جميلة وإن كانت بلهاء أو وسيم وإان كان فارغاً، أن يملكوا عناصر جذب ويفرضوا أنفسهم على مشاهدين تم غسل أدمغتهم بفلسفة التفاهة)!
{ (التافهون يدعم بعضهم بعضاً فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار لأن الطيور على أشكالها تقع)! وهذا اقتباس آخر من كتاب (آلان دونو)، حيث تزداد ضراوة الحرب على العقل لصالح التفاهة في كل مجال من مجالات الحياة، وحيث «نظام التفاهة» يعني (انسحاب التفكير العميق والنظرة المتمعنة إلى الأشياء، وبالتبعية إفساح المجال أمام تغول النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي، الذي تكرسه القواعد والأعراف الأكاديمية المرعبة)، كما يقول صلاح الدين ياسين في قراءة الكتاب.
{ في واحدة من أكثر التجليات المنهجية لنظام التفاهة اليوم، هي الحرب المعلنة على العقل والذكاء الإنساني، الذي هو محور التواصل الطبيعي بين الإنسان والكون وبينه وبين نفسه وما حوله! وحيث الذكاء، هنا لا يعني (أرشيف معلومات مخزنة) فقط، وإنما يعني التلاقح المعرفي مع كل المخلوقات وكل منتجات وتراكمات الحضارات الإنسانية، التي تتداخل فيها المعرفة مع دقة المشاعر المختلفة، لفهم الإنسان نفسه ووجوده بتفكير عميق وتأمل لا يجيده إلا الإنسان نفسه في طبائع الحياة والأشياء! فإن تم استبدال ذلك (بشفرات جوجلية) على سبيل المثال، أو بأي نتاج من نتاجات الذكاء الاصطناعي لصناعة (إنسان بديل) لا يمكن أن يحل محل الإنسان الطبيعي، مهما تمت برمجته بالمعلومات والبيانات، نكون قد وصلنا إلى مرحلة أخطر من مجرد «نظام التفاهة» السائد اليوم إلى مرحلة القضاء على التفكير الحر والمستقل عن نطاق البرمجة العقلية، عبر الشيفرات التي يتم الترويج لها اليوم، ليصبح نظام البرمجيات
(بحسب ما وضعها صانعوها) بديلاً عن التعليم والمدارس والجامعات، التي هي ليست فقط للتحصيل العلمي، وإنما للتعايش الإنساني الطبيعي، وتشكيل العلاقات البشرية والصداقات، ومشاعر الألفة الإنسانية ببعضها، وهي ما لا يمكن أن توفرها تقنيات المعلومات الرائجة اليوم عبر الثورة التكنولوجية الكبيرة، التي يبدو أنها تُجرد الإنسان في النهاية من طبيعته الإنسانية، ومن عقله الحرّ وتفكيره الخاص!
{ من متابعة التطورات الجارية، التي استبدلت «الكتب المعرفية» بمسجات في الفيس بوك والتويتر والواتساب والنت، واستبدلت اللقاءات الطبيعية بالحياة والطبيعة والبشر بشاشات صغيرة ونظارات «الميتا» والعوالم الافتراضية! فإن المرشح ليس المزيد من «الفقر الفكري»، وتأصل «نظام التفاهة» فقط وتحويل التافهين إلى رموز! وإنما باستبدال العقل الإنساني ومشاعره الاستثنائية الطبيعية التي خلقها الله فيه لغاية الوصول إلى النفس الحرة والملهمة والمفكرة، يتم استبدال ذلك بالذكاء الاصطناعي! وبمخزون المعلومات وتوجيه الإنسان نحوها مع قلة وندرة «المعرفة العميقة» لدى الإنسان بنفسه وبطبيعته وهدف وجوده! لقد تحوّل الإنسان النادر في الكون إلى مجرد آلة أخرى! آلة يحكمها ويتحكم فيها السادة أو النخبة العالمية!
{ يعتقد البعض أن ما يحدث هو ضريبة طبيعية للتطور العلمي والتكنولوجي، ولكن لا يخطر على بال هذا البعض أن ما يحدث قد يكون وراءه (ذكاء شرير، بعلم يتم توجيهه وبرمجته وصناعة المنهجية له) من نخبة عالمية شريرة غير معنية بالإنسان كإنسان ولذلك هي تصنع كل التقنيات لتدمير الإنسان الطبيعي، والتعدي على عقله الذي من المفترض أن (يكون حراً بدون شيفرات مبرمجة) مثلما التعدي على روحه الإنسانية الحرة التي هي نسيج من المشاعر والحواس والتفكير، بحيث لا تكون بيانات المعلومات، إلا مجرد رافد من روافد «العمق المعرفي» لماهية الحياة والإنسان والطبيعة والصلة بالغيب والخالق!
فهل نحن أمام استقبال مرحلة قادمة، كما قلنا في مقالات سابقة، هي (مرحلة ما بعد الإنسان)؟! ومرحلة الإنسان الآلة أو الإنسان الجوجل؟! هل «نظام التفاهة» وتغييب العقل الإنساني وعمقه الحقيقي هي مجرد مقدمات ضرورية لفناء حضارة الإنسان واستبدالها بـ(حضارة الآلة) مع تعميق التفاهة والفقر الفكري أولاً؟! تأمل عزيزي القارئ فوعيك هو الحكم!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك