العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عافيتك بالدنيا

منذ‭ ‬أيام‭ ‬وصديق‭ ‬عزيز‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬الطفولة‭ ‬يرقد‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬بعد‭ ‬إصابته‭ ‬بنزف‭ ‬في‭ ‬الدماغ،‭ ‬وقد‭ ‬تجاوز‭ ‬بحمد‭ ‬الله‭ ‬مرحلة‭ ‬الخطر‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يشكو‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬علة،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬مصاباً‭ ‬بمرض‭ ‬يعتقد‭ ‬الناس‭ ‬أنه‭ ‬حميد،‭ ‬وهو‭ ‬التفاني‭ ‬الزائد‭ ‬عن‭ ‬الحد‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬فرغم‭ ‬أنه‭ ‬يتقاضى‭ ‬راتباً‭ ‬نظير‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬8‭ ‬ساعات‭ ‬يومياً،‭ ‬إلا‭ ‬انه‭ ‬ظل‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬طوال‭ ‬يعمل‭ ‬بلا‭ ‬مقابل،‭ ‬لأنه‭ ‬محب‭ ‬لعمله‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬الدقة‭ ‬والإخلاص،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬عدة‭ ‬ساعات‭ ‬إضافية‭ ‬يوميا‭ ‬بل‭ ‬ويحمل‭ ‬معه‭ ‬‮«‬الشغل‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬مصرفي‮»‬،‭ ‬ويعمل‭ ‬بالتحديد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التدقيق‭ ‬المصرفي،‭ ‬والعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصيرفة‭ ‬والمال‭ ‬يتطلب‭ ‬دقة‭ ‬عالية‭ ‬وحرصا‭ ‬على‭ ‬التفاصيل،‭ ‬لأن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بحقوق‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬والدولة،‭ ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬النزيف‭ ‬الدماغي‭ ‬والجلطات،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬نواقيس‭ ‬تنبهنا‭ ‬إلى‭ ‬أننا‭ ‬قمنا‭ ‬بتحميل‭ ‬أجسامنا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تطيق‭.‬

أنا‭ ‬أيضاً‭ ‬أحب‭ ‬عملي‭ ‬وأتفانى‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬أحسب‭ ‬الساعات‭ ‬وأنا‭ ‬أودي‭ ‬مهام‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬‮«‬عاجلة‮»‬،‭ ‬ولكنني،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬لا‭ ‬أستأذن‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬لأرتاح‭ ‬إذا‭ ‬أحسست‭ ‬بأنني‭ ‬مرهق‭ ‬أو‭ ‬بأنني‭ ‬مقصر‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬عائلتي‭. ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬أعطي‭ ‬جسمي‭ ‬وعقلي‭ ‬بعض‭ ‬الراحة،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬تطلب‭ ‬الأمر‭ ‬إسناد‭ ‬المهمة‭ ‬الموكلة‭ ‬إلى‭ ‬زميل‭ ‬عمل،‭ ‬بل‭ ‬ومنذ‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬آخذ‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬إجازتي‭ ‬السنوية‭ ‬كل‭ ‬ثلاثة‭ ‬أو‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر‭ ‬كي‭ ‬أريح‭ ‬رأسي‭ ‬وجسمي‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬العمل‭.‬

وسعيد‭ ‬الحظ‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يؤدي‭ ‬عملاً‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬متعة،‭ ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬يرهق‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬والجسدية‭ ‬مثل‭ ‬وظيفة‭ ‬مملة‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬تحت‭ ‬أشراف‭ ‬شخص‭ ‬متسلط‭ ‬أو‭ ‬متعجرف‭. ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬عملت‭ ‬لنحو‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬ذات‭ ‬مزايا‭ ‬ضخمة،‭ ‬ولكن‭ ‬المناخ‭ ‬العام‭ ‬للعمل‭ ‬كان‭ ‬بغيضاً‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬بدرجة‭ ‬أنني‭ ‬كلما‭ ‬توجهت‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬كنت‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬ذاهب‭ ‬إلى‭ (‬بيت‭ ‬الطاعة‭)‬،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬لاحظت‭ ‬زوجتي‭ ‬احمرارا‭ ‬شديدا‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬اليمنى،‭ (‬ربما‭ ‬لاحظت‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أعطيها‭ ‬العين‭ ‬الحمراء‭ ‬عادة‭)‬،‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب،‭ ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬وعاء‭ ‬دمويا‭ ‬صغيرا‭ ‬انفجر‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬نتيجة‭ ‬لارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬عندي،‭ ‬وأضاف‭ ‬‮«‬جات‭ ‬سليمة‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬واعمل‭ ‬حسابك‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬الضغط‭ ‬تحت‭ ‬السيطرة‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬عندي‭ ‬تحت‭ ‬السيطرة‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬العيادة‭ ‬إلى‭ ‬مكتبي‭ ‬حيث‭ ‬جمعت‭ ‬أشيائي‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬من‭ ‬الكرتون‭ ‬وخرجت‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬دون‭ ‬تقديم‭ ‬استقالة‭ ‬رسمية‭.‬

أموت‭ ‬أو‭ ‬أصاب‭ ‬بالشلل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وظيفة‭ ‬تعود‭ ‬عليّ‭ ‬براتب‭ ‬كبير؟‭ ‬يفتح‭ ‬الله‭.. ‬ما‭ ‬تلزمنيش‭. ‬من‭ ‬الخير‭ ‬لأسرتي‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬بما‭ ‬يتيسر‭ ‬من‭ ‬قوت‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تفقدني‭ ‬كليا‭ ‬بالوفاة‭ ‬أو‭ ‬جزئيا‭ ‬بالإعاقة،‭ ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬غادرت‭ ‬مكتبي‭ ‬ذاك‭ ‬لآخر‭ ‬مرة‭ ‬وضغط‭ ‬الدم‭ ‬عندي‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الحدود‭ ‬الآمنة‭. ‬وكتبت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬أنني‭ ‬عملت‭ ‬بالتدريس‭ ‬حيناً‭ ‬من‭ ‬الدهر،‭ ‬ولاحظت‭ ‬منذ‭ ‬وقتها‭ ‬أن‭ ‬الآلاف‭ ‬يدخلون‭ ‬مهنة‭ ‬التدريس‭ ‬مجبرين‭ ‬لأن‭ ‬أبواب‭ ‬المهن‭ ‬الأخرى‭ ‬مسدودة‭ ‬في‭ ‬وجوههم،‭ ‬ومن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬يظل‭ ‬كارهاً‭ ‬لنفسه‭ ‬وكارهاً‭ ‬للتدريس،‭ ‬ويدفع‭ ‬ثمن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬الطلاب‭ ‬و‭.. ‬هو‭. ‬نعم‭ ‬فالشخص‭ ‬غير‭ ‬المقتنع‭ ‬بمهنته‭ ‬يعاني‭ ‬التوتر‭ ‬المستمر‭ ‬والشد‭ ‬العصبي‭. ‬وهكذا‭ ‬فالمدرس‭ ‬المرغم‭ ‬على‭ ‬قبول‭ ‬المهنة‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬بدائل‭ ‬يظلم‭ ‬جيلا‭ ‬أو‭ ‬أجيالا‭ ‬بأكملها‭ ‬ولا‭ ‬يحس‭ ‬بالرضا‭ ‬المهني‭ ‬أو‭ ‬النفسي،‭ ‬وقبل‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭ ‬انعقد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬غلاسغو‭ ‬بإسكتلندا‭ ‬المؤتمر‭ ‬السنوي‭ ‬للطب‭ ‬النفسي،‭ ‬قدم‭ ‬خلاله‭ ‬الاستشاري‭ ‬ساقب‭ ‬صديق‭ (‬بريطاني‭ ‬مسلم‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬باكستاني‭) ‬ورقة‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬وظيفة‭ ‬أمين‭ ‬مكتبة‭ ‬تسبب‭ ‬التوتر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬إطفائي‭ ‬أو‭ ‬شرطي‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الخطر‭ ‬على‭ ‬الدوام‭. ‬ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬وظيفة‭ ‬رتيبة‭ ‬ومملة‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬يؤدونها‭ ‬التقدير‭ ‬الكافي‭. ‬وكانت‭ ‬خلاصة‭ ‬مداولات‭ ‬المؤتمر‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يكسب‭ ‬صحته‭ ‬ويترك‭ ‬الوظيفة‭ ‬التي‭ ‬تسبب‭ ‬له‭ ‬التوتر‭ ‬والقلق‭ ‬والضيق‭.‬

ولو‭ ‬عمل‭ ‬العرب‭ ‬بتلك‭ ‬النصيحة‭ ‬لصارت‭ ‬المكاتب‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬البشر‭! ‬فنحو‭ ‬70‭%‬‭ ‬منا‭ ‬يقبلون‭ ‬بوظائف‭ ‬عقيمة‭ ‬لأن‭ ‬البديل‭ ‬هو‭ ‬البطالة‭ ‬والجوع‭ ‬والتشرد‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا