عالم يتغير
فوزية رشيد
«سرَّه الباتع» وممنوع تغيير الهويَّة!
{ من مجموعة (حادثة شرف) للكاتب الكبير «يوسف إدريس» حوَّل المخرج «خالد يوسف» قصة «سرَّه الباتع» إلى مسلسل تم عرضه في رمضان، وهو واحد من الأعمال القليلة التي تنتسب إلى الدراما الجيدة، ليربط المخرج وهو أيضاً من كتب سيناريو العمل، بين زمنين، زمن الاحتلال الفرنسي من 1798 إلى 1801، أي ثلاث سنوات، وزمن أحداث مصر ما بين 25 يناير 2011 إلى 30 يونيو 2013، إذ في الربط بين الماضي والمعاصر، تتضّح الإرادة المصرية وسرّ الشعب المصري، حين هو يواجه «الاحتلال الخارجي»، وحين يواجه «الاحتلال الداخلي» ممثلا في تنظيم «الإخوان»! وكلاهما أراد اللعب على «الهوية المصرية»، بتشعباتها الحضارية والثقافية والسياسية والدينية، ليكون الفشل الذريع من نصيبهما، لأن الاستبداد والاحتلال إن لم يلعب على تغيير الهويّة، فبالإمكان إزالته عن سطح الأرض وجغرافيته، ولكن إن لعب على الهوية ومحاولة استبدالها، فذلك هو الأخطر، الذي لا يمكن السماح به لأنه اعتداء على الروح نفسه! ولذلك كان الاحتلال الفرنسي لمصر أقصر الاحتلالات التي مرّت بها، وكان حكم الإخوان أقصر حكم بدوره في هذا البلد الحضاري العريق! ومخاض التغلب على كل منهما استغرق للمفارقة 3 سنوات فقط!
{ العالم الفرنسي (روجيه كيليمان) الذي رافق حملة «نابليون بونابرت» على مصر كتب مذكراته واصفاً فيها لصديقه الفرنسي «روان» ما عاشه من تجربة عميقة في معايشة الشعب المصري، وتحديداً في تلك القلعة التي جعلها «بونابرت» مقراً لعساكره، خارج العاصمة، ما أثار الفلاحين في تلك القرية في الدلتا، ليقود «حامد» الذي قتل القائد الفرنسي، «مينو» مقاومة الفلاحين للاحتلال الفرنسي، بعد انتصار الغزو على المماليك! ولتنتهي القصة بمقتل «حامد» الذي أشعل نار الثورة في كل قرى الدلتا وفي مصر، وحيث يصف «يوسف إدريس» تجربة العالم الفرنسي، الذي كان يدرك منذ البداية، أن تعامل الفرنسيين بالقسوة وقتل الأهالي، لن تمرّ ببساطة على الفلاح المصري، الذي استخف به كل قادة الحملة و«نابليون» نفسه!، فهو الفلاح البسيط والصبور، ولكن الذي يملك «سرّه الباتع» الذي اكتسبه عبر آلاف السنوات، في كيفية ترويض كل الاحتلالات، ولم يسمح للحملة الفرنسية، أن تعمل على تحويل (هويته) بكل خصائصها المصرية، كما حاول «بونابرت» فيما كان يحلم! وكما أراد تنظيم «الإخوان» أن يفعل!
{ يقول «روجيه كيليمان» في قصة «يوسف إدريس» كثيرا عن طبيعة هذا الشعب، وفي كل حلقة هو يتأمل ويتدرّج بوعيه ومشاعره حتى وصل إلى أن يقول لصديقه «روان»: «لقد أحسست يا صديقي أني أواجه القوى الخارقة، حقيقة أحسست بهذا، إلى درجة كانت تدفعني لأن أسجد لها وأطلب المغفرة. أحسست بالإكسير ينسكب في قلبي، والنور الموسيقي الراجف يملأ صدري ويمتزج بحناياي، فأحس لأول مرة في حياتي بعظمة الحياة، وروعة أن نكون بشراً وآدميين نمتلك هذه القدرة المعجزة، قدرتنا أن نتجمّع ليصدر عن تجمعّنا ما هو أسمى من حياة كل منا»!
{ هذا الوصف الذي فجرّه الفلاح المصري «حامد» بشجاعته ونكرانه لذاته، وخاصة في تحريك إرادة الجموع حوله سواء وهو يقودها في حياته، أو بعد تحوّله بمقتله وتقطيع جثته ورمي كل جزء منها في مكان، إلى دفن كل جزء في مقام في «الدلتا» لتنتشر مقامات (السلطان حامد) في كل مكان أيضاً ويتحوّل إلى أسطورة تشبّث بها الشعب المصري، وجعلت «حامد» المعاصر، يبحث عن سرّ هذا السلطان القديم، وهي التسمية الشعبية التي راجت حول حامد في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وهو يواجه أي «حامد» القرن الواحد والعشرين مع المصريين ضراوة احتكار السلطة من «الإخوان» الذين أرادوا الدوس على الطبيعة المصرية وتغييرها وطمس هويتها! ليتلاقى مشهد دحر الحملة الفرنسية بسواعد التكتلات الشعبية الكبيرة في «دلتا» مع مشهد دحر «الإخوان» في الألفية الجديدة في ميدان التحرير وشوارع مصر كلها ومدنها! هنا اشتباك بين التاريخ والحاضر، وهنا شهادة على الإرادة الشعبية ضد الغزو الخارجي، وضد الغزو الداخلي من تنظيم لا يشبه تلك الطبيعة المصرية الغنية بامتدادها عبر التاريخ!، لتطّل الروح بأقوى صورها، ويتحرك «الوعي الجمعي» كما حدث مع كل الأحداث التي مرّت بها «مصر» حين يستشعر المصري بفداحة الظلم، فيتحرك فيهم «العملاق الجمعي» ليغيّر الصورة نهائياً! وكما حدث في 1956 و1973 و2012!
المسلسل فيه الكثير من الخيوط المتداخلة ما بين الماضي والحاضر لا يتحملّها هذا المقال، وفيه سرّ تقديس «حامد» في وجه الحملة الفرنسية أو الغزو الفرنسي، وتحوله إلى أيقونة مصرية انتقلت بها الروح المصرية عبر القرون إلى معرفة «سرّها الباتع»، الذي يظهر في الروح الجمعية، وهي تقاوم كل دخيل، وهذه المرة في «ميدان التحرير» ومع «حامد» الحاضر!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك