عالم يتغير
فوزية رشيد
الزمن المتسارع وذاكرة الحياة!
{ كل شيء يمر سريعا، تتوالى الأحداث والمناسبات والعمر ينقضي، ولكأن اللحظة الأخيرة التي يقف فيها الإنسان على عتبة الزمن من عمره، قد لخصت أزمانا سابقة وحوادث كثيرة في كبسولة زمنية قد تأخذ من الذاكرة بضع دقائق أو تأخذ ثواني! ولا شيء أكثر من ذلك! أين ذهبت كل تلك الأحداث سواء التي مرت في مسافة العمر الشخصية، أو في مسافة عمر الوطن أو الكون مغمورة باسترجاع ما فيها، وكأنها ومضة وليست عقودا كثيرة! أهذا ما يراه الإنسان لحظة موته؟! هل يستعيد زمن حياته الطويل / القصير في كثافة ثوان وكأنه استرجاع خارج الزمن!، وللأحداث خارج سياقها التي كانت عليه، لتعود مجرد ومضات في محطات العمر التي يتم النظر إليها من الأمام إلى الخلف، فإذا هي وراء العمر نفسه ووراء الزمن!
{ غربية حياة الإنسان، وغريبة رحلته العمرية! غريبة هواجسه وشجونه وأحلامه وأوهامه التي كان مشحونا بها؛ فإذا ما بقيت في سحابة الماضي، أدرك أنها مجرد ارتحالات، قاس بها عمره، يضحك من حزنه على بعضها، ويضحك من فرحه ببعضها، فلا الحزن بقي ولا الفرح استمر.
وربما أكثر ما يرسخ في الذاكرة هي تلك الارتحالات الفكرية أو الروحية التي عايشها، وترجم بعضها إلى سلوكيات وأحيانا إلى مشاحنات وخلافات يدرك بعد مضيها أنها لم تكن ذات فائدة، إلا بالتعبير عن كونها محطات كانت زاخرة أحياناً بالغرور الأجوف، أو كانت حانية حنو أم وهي تضم أطفالها الصغار! فاذا ما كبروا شعر بعضهم أنهم كبروا عليها فيما شعر البعض الآخر أنه لا يزال صغيراً في حضنها وبحاجة إلى ذلك الدفء النادر في دهاليز الحياة المظلمة!
{ مثل تلك الهواجس تربط الإنسان بالحياة نفسها! البعض يتصور أنه فهم كل شيء فيها، والبعض النادر يدرك أنه كلما تعلم ازداد جهلاً بها! ولا يتواضع في الحياة إلا العلماء الحقيقيون الذين يصلون في مرحلة العمر الأخيرة إلى أنهم مازالوا لا يعلمون شيئاً، فأسرار الحياة أكبر من عمرهم، ومن علمهم مهما بلغ ليعود في تلك المرحلة إلى دهشة الطفل واكتشافاته البكر، وإلى الفرح مجدداً بكل ما اعتقد أنه صغير ولا أهمية له! فجأة ينظر بدهشة إلى جماليات الحياة البسيطة كشروق الشمس وهو يتناوب في محطاته السماوية بين البزوغ والارتفاع والغياب أو الغروب! وكامتداد البحر وتلاطم أمواجه ولكأنه يحمل في أعماقه أسرار الطبيعة التي لم يتم اكتشافها بعد! وكألفة الأواصر بين أفراد العائلة الواحدة، ليقف عند محطاتها الأولى، حين كان الجميع صغاراً يجتمعون على مائدة الإفطار أو الغداء أو العشاء! أو كتلك العاطفة الأولى التي سهر بسببها ليالي كثيرة! كل تلك الأشياء البسيطة العادية في مسراها تعيد) الزمن ليتوقف عند محطة جديدة في آخر العمر هي محطة الحنين (لما رحل من زمنه ومن عمره! فتنفتح في روحه بؤرة ضوء جديدة، يدرك فيها أن عمره الزمني مجرد كبسولة كثفت كل مراحله العمرية المنقضية! وبقي له أن يتأمل مجدداً بدهشة الكهولة / الطفولة فكلاهما يلتقيان في لحظة مكثفة تشير إلى أن الزمن كان سريعاً، بل ومتسارعاً، وأن لكل إنسان ذاكرة حياة قد تشتبك مع ذاكرة آخرين، ومنها تختلف في كيفية سريانها وكثافة تجاربها وحصيلة خبرتها من شخص إلى آخر!
{ لم يبق ما يستحق العناء إلا الحصول على ذلك (الكنز) من حصيلة العمر المترجمة إلى الخبرة التي تعيد الذاكرة إلى المشاعر التي بها يقع الفارق بين ما هو ثمين في تلك الحصيلة وما هو غث، لم يكن يستحق الركض خلفه للحصول عليه! وبعد كل شيء، هل أدركنا قيمة الحياة؟! هل أدركنا أن أرزاقها المختلفة موزعة بين البشر، وما حظينا به هو ما كنا نحتاج إليه، لنصل إلى ذلك العمق الذي يجمع فينا الكهولة والطفولة في ومضة واحدة؟ لنعود أدراجنا ونحن نطل على ما مضى، ولكن هذه المرة وقد أخذت الأولويات في أجندة العمر ترتيبها الأدق والأصح، فلم نعد نبحث عن السعادة في خارجنا، فهي إما أن تكون موجودة في داخلنا، وإما أنها لا تأتي أبداً، إلا في إطلالة على شرفات الوهم التي نعتقد أنها كانت ستسعدنا! ها هو الزمن يتسارع فأي أثر تركناه خلفنا ليشهد أننا عشنا! وهل عشنا كما يجب!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك