العدد : ١٦٨٤٨ - الخميس ٠٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٨ - الخميس ٠٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

لماذا خلقنا الله؟!

{‭ ‬لماذا‭ ‬خلقنا‭ ‬الله؟‭! ‬فعلاً‭ ‬هو‭ ‬أصعب‭ ‬سؤال‭ ‬وجودي‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭! ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬عزّ‭ ‬وجلّ‭: ‬‮«‬ما‭ ‬خلقت‭ ‬الإنس‭ ‬والجن‭ ‬إلا‭ ‬ليعبدون‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬المقصود‭ ‬بالعبادة؟‭! ‬هل‭ ‬هي‭ ‬منحصرة‭ ‬في‭ ‬العبادات‭ ‬التي‭ ‬نعرفها‭ ‬فقط؟‭! ‬أم‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬العبادة‭ ‬مفهوم‭ ‬يتسع‭ ‬ليشمل‭ ‬سرّ‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬نفسه،‭ ‬وسرّ‭ ‬نشأة‭ ‬الكون‭ (‬السماوات‭ ‬والأرض‭)‬،‭ ‬وسرّ‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬تطوراتها‭ ‬والقوانين‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬التطورات‭! ‬وسر‭ ‬الشفرة‭ ‬الوراثية‭ ‬والمعلومات‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬الخلية‭ ‬الواحدة‭ ‬في‭ ‬الكائنات‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬تمايزات‭! ‬وتجليات‭ (‬الإعجاز‭ ‬الإلهي‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الحياة‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬على‭ ‬إعجازها‭ ‬وتحديها‭ ‬مهما‭ ‬حقق‭ (‬العلم‭ ‬المادي‭) ‬من‭ ‬إنجازات‭! ‬وحول‭ ‬هذا‭ ‬هناك‭ ‬أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬يقف‭ (‬الفكر‭ ‬المادي‭) ‬أمامها‭ ‬عاجزاً‭! ‬وحيث‭ ‬كل‭ ‬قوانين‭ ‬الطبيعة‭ ‬مجتمعة‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬وحدها‭ ‬أن‭ ‬تفسّر‭ ‬نشأة‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬المادة‭ ‬غير‭ ‬الحيّة‭! ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬العلم‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ (‬معتنقو‭ ‬نظرية‭ ‬داروين‭) ‬سرّ‭ ‬الانضباط‭ ‬والمنطقية‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬وسرّ‭ ‬بدء‭ ‬الوجود‭ ‬من‭ ‬العدم‭! ‬وحيث‭ (‬التصميم‭ ‬الذكي‭) ‬والوعي‭ ‬الكوني،‭ ‬ووجود‭ ‬الذكاء‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬الإقرار‭ ‬بـ‭(‬المصمّم‭ ‬الذكي‭) ‬الذي‭ ‬صنع‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الدقة‭ ‬والانضباط‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬والطبيعة‭ ‬والإنسان‭ ‬والكائنات‭ ‬جميعها‭! ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يريده‭ ‬التفكير‭ ‬المادي‭! ‬

{‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬من‭ ‬ملائكة‭ ‬نورانيين‭ ‬ومن‭ ‬شياطين‭ ‬ومردة،‭ ‬ومن‭ ‬طبيعة‭ ‬زاخرة‭ ‬ونبات‭ ‬وحيوان،‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬الإنسان‭ ‬ويجعله‭ ‬أسمى‭ ‬مخلوقاته‭ ‬ككائن‭ ‬استثنائي‭ (‬إن‭ ‬عرف‭ ‬معنى‭ ‬عبادة‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬وأن‭ ‬ينزل‭ ‬أسفل‭ ‬سافلين‭ ‬إن‭ ‬انصرف‭ ‬عن‭ ‬خالقه‭! ‬‮«‬فإذا‭ ‬سوّيتُه‭ ‬ونفخت‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬روحي‭ ‬فقعوا‭ ‬له‭ ‬ساجدين‮»‬‭ ‬الحجر‭ ‬‭ ‬29‭.‬

هذا‭ ‬المخلوق‭ ‬الذي‭ ‬نفخ‭ ‬الله‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬روحه،‭ ‬وأمر‭ ‬الملائكة‭ ‬بالسجود‭ ‬له،‭ ‬هو‭ ‬المخلوق‭ ‬‮«‬الاستثنائي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ (‬حرية‭ ‬الإرادة‭ ‬الدنيوية‭ ‬وليس‭ ‬الوجودية‭ ‬كالموت‭ ‬والحياة‭)‬،‭ ‬وباختياره‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬الملائكة‭ ‬أو‭ ‬أعلى‭ ‬عبر‭ ‬امتحانات‭ ‬ومكابدات‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬ينزل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬مرتبة‭ ‬الحيوان‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬نفسه،‭ ‬والعلاقة‭ ‬الشرطية‭ ‬مع‭ ‬خالقه‭! ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬خلق‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وخلق‭ ‬الإنسان‭ ‬ليعبده‭ (‬بالمعنى‭ ‬الواسع‭ ‬والشمولي‭ ‬للعبادة‭) ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬حول‭ ‬تحقيق‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬بمعرفة‭ ‬نفسها‭ ‬ومعرفتها‭ ‬لخالقها‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بالحياة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها،‭ ‬عبر‭ ‬سعيه‭ ‬الدنيوي‭ ‬للخير‭ ‬والتعمير،‭ ‬وفهم‭ ‬النواميس‭ ‬والقوانين‭ ‬الطبيعية‭ ‬أو‭ ‬الفطرة‭ ‬التي‭ ‬خلقه‭ ‬الله‭ ‬عليها،‭ ‬ليرتقي‭ ‬كإنسان‭ ‬ويرتقي‭ ‬بما‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬ومجتمع‭ ‬وعلاقات‭ ‬بشرية،‭ ‬وأسرار‭ ‬العلاقة‭ ‬الروحية‭ ‬والوجودية‭ ‬بالخالق،‭ ‬وليعمل‭ ‬لما‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيوية‭ ‬القصيرة‭!‬

{‭ ‬وحده‭ ‬الإنسان‭ ‬إذًا‭ ‬هو‭ ‬المخلوق‭ ‬المميز‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬الكائنات،‭ ‬لأنه‭ ‬وحده‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬الاختيار‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشرّ،‭ ‬وقد‭ ‬زودّه‭ ‬خالقه‭ ‬بما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬أرزاق‭ ‬شاملة‭ ‬ومن‭ ‬ملكات‭ ‬وإمكانيات‭ ‬ومواهب‭ ‬وجعل‭ ‬له‭ ‬السمع‭ ‬والبصر‭ ‬والأفئدة‭ ‬والجوارح‭ ‬والعقل‭ ‬والقلب،‭ ‬ليحقق‭ ‬ما‭ ‬خلقه‭ ‬الله‭ ‬له‭ ‬كنوع‭ ‬استثنائي‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬المخلوقات‭ ‬وليعمل‭ ‬لدنياه‭ ‬وآخرته،‭ ‬إن‭ ‬جاءت‭ ‬اختياراته‭ ‬من‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬سليم‮»‬‭ ‬تهديه‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬المستقيم،‭ ‬ولكنه‭ ‬الطريق‭ ‬المحفوف‭ ‬بكل‭ ‬التحديات‭ ‬والمكابدات‭!‬

وما‭ ‬الرزق‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه‭ ‬المادية‭ ‬والمعنوية‭ ‬والروحية،‭ ‬إلا‭ ‬تلك‭ ‬الإمكانيات‭ ‬والملكات‭ ‬التي‭ ‬تسعفنا‭ ‬على‭ ‬عبادته‭ ‬بالمعنى‭ ‬الشمولي‭ ‬للعبادة‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬الوسائل‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬لكي‭ ‬يرتبط‭ ‬ارتقاؤنا‭ ‬بأنفسنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الترقي‭ ‬ومعرفة‭ ‬الصلة‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وبين‭ ‬الله‭ ‬خالق‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وخالق‭ ‬النفس‭ ‬والروح‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬سرّها‭ ‬إلا‭ ‬هو‭! ‬ولهذا‭ ‬خلقنا‭ ‬الله‭! ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬فيه‭ ‬يكمن‭ ‬السر‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬أو‭ ‬كينونة‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬المادي‭ ‬وغير‭ ‬المادي،‭ ‬وجوهر‭ ‬الإنسان‭ (‬الروح‭) ‬يبقى‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬الجسد،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬كائن‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬المادة‭ ‬وعالم‭ ‬الغيب‭! ‬

{‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬يقدم‭ ‬للعقل‭ ‬الإنساني‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬الخالق‭ ‬لفهم‭ ‬تسلسل‭ ‬الخلق‭ ‬ومكانة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخلق‭! ‬ودعا‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬‮«‬قل‭ ‬سيروا‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬فانظروا‭ ‬كيف‭ ‬بدأ‭ ‬الخلق‮»‬‭ ‬العنكبوت‭-‬20،‭ ‬وقال‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬ما‭ ‬أشهدتهم‭ ‬خلق‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭ ‬ولا‭ ‬خلق‭ ‬أنفسهم‮»‬‭ ‬الكهف‭-‬51‭.‬

ولهذا‭ ‬تبقى‭ ‬النظريات‭ ‬الوضعية‭ ‬لتفسير‭ ‬كيف‭ ‬بدأ‭ ‬الخلق،‭ ‬وسرّ‭ ‬تطور‭ ‬الوعي‭ ‬الإنساني،‭ ‬من‭ ‬نظرية‭ ‬الانفجار‭ ‬الكبير،‭ ‬والداروينية،‭ ‬مجرد‭ ‬نظريات،‭ ‬لا‭ ‬تفسر‭ ‬كيف‭ ‬بدأت‭ ‬المادة‭ ‬من‭ ‬العدم‭! ‬وكيف‭ ‬تشكّل‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬اللا‭ ‬شيء‭! ‬ومن‭ ‬أين‭ ‬جاءت‭ ‬المادة‭ ‬أصلاً‭! ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وغيره‭ ‬يملك‭ ‬إجابته‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬الوجود‭ ‬من‭ ‬العدم،‭ ‬ومن‭ ‬جعل‭ ‬أمره‭ ‬بين‭ ‬الكاف‭ ‬والنون‭ (‬كن‭ ‬فيكون‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬ليكون‭ ‬الكائن‭ ‬المميّز‭ ‬والاستثنائي‭ ‬بين‭ ‬الكائنات‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭! ‬سبحانه،‭ ‬ولنتدرج‭ ‬في‭ ‬معارفنا‭ ‬باختيارنا‭ ‬خلقنا‭ ‬الله‭ ‬ووضع‭ ‬رهانه‭ ‬على‭ ‬الصالحين‭ ‬من‭ ‬الناس‭.‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا