العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كفّوا عن الغطرسة

أسرني‭ ‬وشد‭ ‬انتباهي‭ ‬كلام‭ ‬قاله‭ ‬شيخ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬تليفزيوني‭ (‬نسيت‭ ‬اسمه‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬الزهايمر‭ ‬وحده‭!! ‬ولكن‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أتابع‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية‭ ‬العربية‭ ‬عادة،‭ ‬وكان‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الشيخ‭ ‬مصادفة‭ ‬وأنا‭ ‬أحاول‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬قنوات‭ ‬بنت‭ ‬ناس‭)‬،‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬تناول‭ ‬الطريقة‭ ‬المثلى‭ ‬للتعامل‭ ‬بين‭ ‬الطبيب‭ ‬ومرضاه،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬تركيزه‭ ‬على‭ ‬الواجبات‭ ‬المهنية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬الملقاة‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الطبيب،‭ ‬ولكن‭ ‬استوقفني‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬قوله‭ ‬للأطباء‭: ‬لا‭ ‬تتعالوا‭ ‬على‭ ‬المرضى،‭ ‬بل‭ ‬عاملوهم‭ ‬كبشر‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ضعف،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لائق‭ ‬ليحسوا‭ ‬بأنهم‭ ‬أناس‭ ‬جديرون‭ ‬بالتقدير‭ ‬والرعاية‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬السلم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬واستشهد‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬بقوله‭ ‬تعالى‭: (‬ولا‭ ‬تصعر‭ ‬خدك‭ ‬للناس‭)‬،‭ ‬وأضاف‭ ‬شيخنا‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬قرأت‭ ‬نصائح‭ ‬لقمان‭ ‬لولده‭ ‬عشرات‭ ‬بل‭ ‬مئات‭ ‬المرات،‭ ‬ولكن‭ ‬ورود‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تصعر‭..‬‮»‬‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬السياق‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬العدسة‭ ‬الطبية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬النظر‭ ‬أكثر‭ ‬حدة‭.‬

هذه‭ ‬يا‭ ‬قرائي‭ ‬الكرام‭ ‬وقارئاتي‭ ‬الكريمات‭ ‬قمة‭ ‬البلاغة‭ ‬في‭ ‬التبليغ‭. ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الإعلام‭ ‬يستحق‭ ‬ذلك‭ ‬المسمى،‭ ‬لأن‭ ‬الإعلام‭ ‬هو‭ ‬التبليغ‭ ‬والتنوير‭ ‬بهدف‭ ‬توصيل‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وتذكر‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬مسؤول‭ ‬دخلت‭ ‬مكتبه‭ ‬وأبى‭ ‬أن‭ ‬يتصدق‭ ‬عليك‭ ‬بنظرة،‭ ‬وتشاغل‭ ‬بتقليب‭ ‬أوراق‭ ‬تتعلق‭ ‬بملابسات‭ ‬انهيار‭ ‬سد‭ ‬مأرب‭. ‬وتذكر‭ ‬رئيسك‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬تراه‭ ‬مصادفة‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر‭ ‬ولا‭ ‬يتفضل‭ ‬بإلقاء‭ ‬نظرة‭ ‬عابرة‭ ‬عليك،‭ ‬بل‭ ‬ولا‭ ‬يكلف‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬يرد‭ ‬التحية‭ ‬التي‭ ‬تلقيها‭ ‬عليه‭. ‬والطبيب‭ ‬الذي‭ ‬جلست‭ ‬أمامه‭ ‬وخاطبك‭ ‬بقوله‭: ‬نعم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرفع‭ ‬نظره‭ ‬إليك،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬بشرح‭ ‬علتك‭ ‬حتى‭ ‬يقاطعك‭: ‬أوكي‭.. ‬ويشرع‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الوصفة‭ ‬الطبية‭. ‬وتكون‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬الانتظار‭ ‬في‭ ‬عيادة‭ ‬ويدخل‭ ‬عليكم‭ ‬شخص‭ ‬حسن‭ ‬الهندام‭ ‬ينظر‭ ‬إليكم‭ ‬بطرف‭ ‬عينيه‭ ‬ثم‭ ‬يجلس‭ ‬بلا‭ ‬سلام‭ ‬أو‭ ‬كلام‭. ‬وتدخل‭ ‬على‭ ‬مسؤول‭ ‬حكومي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تواضع‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يلقاك‭ ‬بعد‭ ‬توسلات‭ ‬دامت‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬حتى‭ ‬يرن‭ ‬هاتفه،‭ ‬ويؤشر‭ ‬لك‭ ‬بيده‭ ‬كي‭ ‬‮«‬تفِزْ‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬يخرج‭ ‬لك‭ ‬الكارت‭ ‬الأحمر‭ ‬الافتراضي‭ ‬كي‭ ‬تغادر‭ ‬مكتبه،‭ ‬فتعود‭ ‬أدراجك‭ ‬لأنك‭ ‬تعرف‭ ‬أنك‭ ‬لن‭ ‬تستطيع‭ ‬مقابلة‭ ‬‮«‬سعادته‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬يشيب‭ ‬الغراب،‭ ‬وهناك‭ ‬الزوج‭ ‬الذي‭ ‬كلما‭ ‬كلمته‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬ما‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬السقف‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬حذائه،‭ ‬وفي‭ ‬أغلب‭ ‬الأوقات‭ ‬إلى‭ ‬تلفونه‭ ‬عامداً‭ ‬لتفهم‭ ‬أن‭ ‬كلامها‭ ‬لا‭ ‬يعنيه‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬أو‭ ‬قليل‭.‬

هذه‭ ‬كلها‭ ‬أمثلة‭ ‬لتصعير‭ ‬الخد‭ ‬والغطرسة‭ ‬والعنطزة‭ ‬والتعالي،‭ ‬وفي‭ ‬التحليل‭ ‬الأخير‭ ‬فكلها‭ ‬دليل‭ ‬مرض‭ ‬نفسي‭ ‬وعقد‭ ‬نفسية،‭ ‬فالشخص‭ ‬الواثق‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬ومن‭ ‬أهليته‭ ‬لمركزه‭ ‬الوظيفي‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الجلافة‭ ‬كي‭ ‬يُشعِر‭ ‬الآخرين‭ ‬بأنه‭ ‬مميز‭. ‬خلال‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬كبرى‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عامل‭ ‬نظافة‭ ‬آسيوي‭ ‬بسيط‭ ‬مكلف‭ ‬بغسل‭ ‬المراحيض‭ ‬والسلالم‭ ‬‮«‬الدرج‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬عمله‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬ليلاً‭ ‬وينتهي‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬فجرا،‭ ‬ولأن‭ ‬راتبه‭ ‬كان‭ ‬بسيطاً‭ ‬ولأنه‭ ‬كان‭ ‬شخصاً‭ ‬خلوقاً‭ ‬ولطيفاً‭ ‬ومهذباً‭ ‬فقد‭ ‬اتفق‭ ‬بعضنا‭ ‬على‭ ‬تكليفه‭ ‬بغسل‭ ‬سياراتنا‭ ‬نظير‭ ‬أجر‭ ‬معلوم‭ ‬وكنا‭ ‬نكلفه‭ ‬بمشاوير‭ ‬بسيطة‭ ‬نعطيه‭ ‬مقابلها‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬من‭ ‬مال،‭ ‬ولكن‭ ‬الخدمات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقدمها‭ ‬لنا‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬القيمة‮»‬‭ ‬أضعاف‭ ‬النقود‭ ‬التي‭ ‬يتقاضاها‭ ‬منا‭. ‬وكنا‭ ‬بالطبع‭ ‬كلما‭ ‬التقينا‭ ‬به‭ ‬بادلناه‭ ‬الحديث‭ ‬والدعابات‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بضرورة‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬لنفسه‭ ‬زوجة‭ ‬فكان‭ ‬يقول‭: ‬ومن‭ ‬سترضى‭ ‬بالزواج‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬مهمته‭ ‬تنظيف‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭! ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬استوقفني‭ ‬المدير‭ ‬الذي‭ ‬يتبع‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬العامل‭ ‬البسيط‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬لماذا‭ ‬ترفعون‭ ‬‮«‬التكليف‮»‬‭ ‬مع‭ ‬العمال‭ ‬وتسمحون‭ ‬لهم‭ ‬بدخول‭ ‬مكاتبكم‭ ‬والجلوس‭ ‬فيها‭ ‬لمبادلتكم‭ ‬الحديث‭.. ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬إن‭ ‬خمس‭ ‬دقائق‭ ‬أتبادل‭ ‬فيها‭ ‬الحديث‭ ‬مع‭ ‬عامل‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭ ‬ذاك‭ ‬أخف‭ ‬على‭ ‬قلبي‭ ‬من‭ ‬الجلوس‭ ‬خمس‭ ‬ثوان‭ ‬مع‭ ‬أناس‭ ‬نفوسهم‭ ‬ملوثة‭ ‬مثل‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭. ‬ثم‭ ‬أضفت‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬يرضيك‭ ‬أن‭ ‬رئيسك‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬استقبالك‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الشركة‭ ‬كموظف‭ ‬كاونتر‭ ‬بأجر‭ ‬يومي؟‭ ‬قصدت‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أذكره‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬موظفاً‭ ‬بسيطاً‭ ‬ثم‭ ‬ارتفع‭ ‬وظيفياً،‭ ‬وبأن‭ ‬من‭ ‬تواضع‭ ‬لله‭ ‬رفعه‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا