هو صديق العمر ورفيق الروح. كنتُ ومازلت محظوظا بالتعرف عليه، لا أذكر تاريخ ذلك اليوم تحديدا، ولكنه كان أحد أيام السنوات الأولى من السبعينيات. ومنذ ذاك وصداقتنا وطيدة تزدان بالمودة والإخلاص.
أتذكر أن أهمَّ دراسة قرأتها له كانت في جريدة البيان الكويتية عام 1974م وكانت بعنوان: الحياةُ الأدبية في قلب الجزيرة العربية، نشرتْ في خمس حلقات. وهذه الدراسة، قبلَ نشرها كانت منسوخة في دفتر مدرسي بخط يده، أهداني إياه بعد عدّة سنوات من رفقتي معه، كي أحتفظ به في أرشيف المكتبة، وكنت حين أصادفه، وأنا أتجول بين رفوف المكتبة، ألتقطه كتذكار ثمين، وأشرع في قراءة الدراسة، وكأني لم أرها من قبل. ويتكرر الأمر مراتٍ ومرات، من دون أن أملّ منها. فكنت كلما تراكمت عليها وحولها الكتب والأوراق، وصرت لا أهتدي إليها بسهولة، أنقلها إلى مكان آخر أوضحَ بروزا، وبقيتُ على هذا الحال سنين عديدة.
ولكن الدراسة ظلت عالقة بذهني لم أنسَها، علما بأن الدكتور إبراهيم نشر قبل تلك الدراسة وبعدها مقالاتٍ كثيرة، غابت عن بالي، لعلها تحولت في لا وعيي إلى ذكرى تستعصي على النسيان. أما الدراسة كمحتوى فقد لفتت نظري منذ قراءتي الأولى لها: لما لمستُ فيها من جهدً بحثي جيد لتاريخ الحركة الأدبية في الجزيرة العربية، في العصور المتأخرة. وحقيقةً، أنني ما كنت مُلما بهذا الموضوع قبل ذاك. وشكلتْ الدراسة تلك دافعا لمتابعة كل ما يكتبه الدكتور إبراهيم غلوم. وتلك الدراسة عرفتني أيضا على ناقد منفتح الذهن، منظّم الفكر، متزن في آرائه النقدية وأفكاره. وكنا مع بداية حركتنا الأدبية في حاجة إلى نقاد من أمثال الدكتور إبراهيم غلوم، يتمتعون بالموهبة، ولديهم إمكانيات الكتابة النقدية الجيدة. والتحق بأسرة الأدب بعد تخرجه، وصار من أبرز أعضائها البارزين، ومن النقاد النشطين في الحركة الأدبية في البحرين.
منذ تعارفنا – أنا والدكتور إبراهيم – بداية السبعينات – كما قلت – ربطتنا علاقة صداقة متينة وحميمة؛ فكنّا نلتقي في منزلي بقلالي، ونذهب أحيانا إلى مكتبات المنامة لشراء الكتب والمجلات، ونحضر الندوات والأمسيات معا، التي تقيمها أسرة الأدباء، ونشاهد المسرحيات التي يعرضها مسرح أوال ومسرح الجزيرة، ونتابع تقريبا معظم الفعاليات التي تنظم آنذاك. تلك الأيام كان فيها بهجة وسعادة وحيوية، ومتعة، وكنا شبابا طموحين، متطلعين باستبشار نحو المستقبل.
ومن ذكرياتنا التي لا تغيب عن البال إننا كنّا (أنا والدكتور علوي والدكتور إبراهيم) بعد حضورنا أي فعالية ثقافية، نعرّج على أحد المقاهي أو المطاعم القريبة، لنشرب شيئاً نرطّب به حلوقنا، أو نتناول عشاءً خفيفاً، وأحياناً نذهب إلى إكمال السهرة في مكتبة منزلي الجديد بشارع المعارض بالحورة، بعد أن نزحتً من قلالي في عام 1978م. وفي هذه اللقاءات الحميميّة، كان يحلو لنا الحديث الصريح والشفاف، لمناقشة ما حدث في تلك الندوات والأمسيات التي حضرناها؛ حيث ننهال على ما دار فيها من أفكار وحوار، بالتعليقات والانتقادات، التي لم نكن نجرؤ على طرحها أمام جمهورها. ولا أبالغ إذا قلتُ: إنّ هذه الحوارات العفوية المفتوحة، كانت أغنى وأفضل قيمة نقدية مما دار فيها من نقاش، وربما أجدى مما سيكتب عنها في الصحف والمجلات المحلية في الأيام التالية.
كنا أيضا (أنا والدكتور إبراهيم وقاسم حداد) أعضاء في مسرح أوال، نوجد فيه أيام البروفات وأيام العروض كذلك، وتُعد من أجمل الأوقات وأمتعها عندنا. ونشارك في اللجنة الثقافية التي كان من مهمتها: اختيار النصوص المسرحية، العربية والعالمية، ومراجعة النصوص المحلية واقتراحها للعرض، وتقييم العروض المسرحية، وكتابة التقارير عنها. وكان الدكتور إبراهيم أكثرنا اهتماما ومتابعة لنشاطات المسرح، وكذلك الكتابة عن المسرحيات التي تُعرض. وله دورٌ كبير في رعاية المسرح وإدارة لجانه وتنظيم مهرجاناته.
الذكريات مع الدكتور إبراهيم كثيرة، ولا يتسع المجال إلا لذكر جزء بسيط منها.
ولمحدودية الوقت المخصص للكلمة، أوجزُ جهود الدكتور إبراهيم غلوم في نقاط مختصرة:
* قدّم الدكتور إبراهيم غلوم، حتى الآن ما يزيد على عشرين مؤلفاً في مجال الدراسات الأدبية والنقدية، شملت القصة والرواية والمسرحية، منها: ظواهر التجربة المسرحية في البحرين، والقصة القصيرة في الخليج العربي، والمسرح والتغير الاجتماعي في الخليج العربي، وتكوين الممثل، والخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي، والمسافة وإنتاج الوعي النقدي، والمسرح الموازي، وبنية الكوميديا الهزلية، والثقافة وإنتاج الديمقراطية، وغيرها. بالإضافة إلى مجموعة من النصوص المسرحية.
* وعن دوره الأكاديمي، فقد كان مشرِّفا، صاحبَ رسالة، عكف على تحقيقها بكل ما لديه من عزم وإرادة وإخلاص، وبما امتلكه من علم وخبرة وثقافة، كما تولى العديد من المناصب، منها: عمادة كلية الآداب والتربية، وعمل رئيساً لقسم اللغة العربية، وقسم الإعلام والسياحة والفنون، وأسّس المركز الإعلامي، وترأس تحرير مجلة ثقافات، ومجلة العلوم الإنسانية، التي لا تزال تصدر حتى الآن، وتُعدُّ من المجلات الأكاديمية المحكّمة والرائدة في مجالها. أما جهوده الثقافية في الجامعة، فقد نظم الكثير من اللقاءات والفعاليات الثقافية على مستوى البرامج الأكاديمية، وشارك في معظمها.
* وفي مجال التوجيه والإشراف الأكاديمي، عمل بنشاط وهِمّة على متابعة طلبته وقدّم لهم خُلاصة علمه وخبرته، وفي كل مستوياتهم الدراسية، من الصفوف الدنيا وحتى الماجستير والدكتوراة، وتابع عملهم البحثي باهتمام كبير، وأحاطهم برعاية كاملة، وإشراف دائم، وتوجيه منظم إلى أصول البحث ومصادره، ووفر لهم المراجع النادرة، وكان حريصا كل الحرص على نجاحهم وتفوقهم.
* أما عن وجوده على الساحة الثقافية، فهو صاحب الصولات والجولات، وسيّد المحافل الأدبية والفكرية؛ يشارك فيها بفعالية وبكثافة ملحوظة؛ فهو عضو مؤسس وفاعل في عدد كبير من المؤسسات الثقافية الأهلية والرسمية، والمسارح والأندية والمجالس. وترأس مجلس إدارتها عدة مرات ورئاسة تحرير مجلتها (كلمات) عام 1983، وغيرها كثير.
* وإذا أحصينا كتاباته النقدية والأدبية في مجال الصحافة، ومساهماته فيها نجدها كثيرة ومتعددة: من أحاديث ومقابلات وتحقيقات صحفية، يدلي بها غالباً في مناسبات أدبية وثقافية، داخل البلاد وخارجها.
* نشاطه النقدي – الواسع والمتعدد – على الساحتين الأكاديمية والثقافية عامة، كان له الأثر العميق في إحداث وعي ثقافي لدى جيل كامل من المشتغلين بالفن والأدب، في البحرين، وفي بلدان منطقة الخليج العربي.
* وفي مجال المسرح، له الدورُ الأبرز والأوسع والأعمق؛ فقد ساهمت جهوده النقدية، النظرية منها والتطبيقية في إثراء الحركة المسرحية، وساعدت على خلق الوعي بماهية النقد الأدبي ودوره في تطوير العمل المسرحي. ولم يتوان عن تشجيع الأعمال المسرحية الهادفة، والتصدي بالنقد التقويمي الحازم للأعمال السطحية والضعيفة.
* وفي مجال العمل الثقافي، يُعدُّ الدكتور إبراهيم غلوم من أبرز القادة فيه، وأكثرهم نشاطاً وعملاً ومبادرة؛ فقد أخذ على عاتقه عبء مسؤوليات كثيرة، تنوعت بين تحرير المجلات وإدارة المؤسسات الأدبية وترؤس اللجان المسرحية والثقافية؛ فكان فيها المخطط والمشرّع لأنظمتها وقوانينها، والمُعدّ لتقاريرها وتوصياتها، وأوّل من يسعى إلى تنفيذها ومتابعة مسيرتها، بجد واهتمام كبيرين.
* وأخيرا، أنا مدين له بالشكر والامتنان، على الكتاب الذي ألفه عن الحركة الأدبية الجديدة، حيث جعل من دوري النقدي محورا لها، والذي جاء بعنوان: (المسافة وإنتاج الوعي النقدي أحمد المنّاعي والوعي بالحركة الأدبية الجديدة). وصدر عام 2010، وفاز بجائزة هيئة الثقافة بالبحرين.
كتاب بُذل فيه جهد كبير، وامتاز بمنهجية جديدة مبتكرة، وموضوعية صارمة، وتحليل دقيق، ولغة واضحة سليمة، وصافية.
دكتور إبراهيم غلوم، شخصية فذة واستثنائية، تستحق ألف تكريم، والجميع يكنون له كل معزة وتقدير واحترام.
{ ناقد وكاتب بحريني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك