تغطية : علي باقر
للفن النَّحتي أهميته في المحافظة على التاريخ الإنساني عبر العصور، فهو مبحثٌ مهم لتسجيل تاريخ الأمم السابقين وحضاراتهم وأفكارهم، وليكن الشاهد التاريخي حينما نغوص في دهاليز الحضارة اليونانية أو المصرية القديمة أو الصينية والأشورية والبابلية والهندية واليابانية نجد المنحوتات شاهدة على حياة البشر وتوحي بحركتهم وعقائدهم ونعرف من خلالها على أزيائهم ومن شواهد الحضارات أنها احتفظت بمجسمات لشخصيات كان لهم دورهم في تاريخ تلك الحضارات. فالنحتُ فنٌّ من الفنون التشكيلية التي تخاطب المشاعر والأحاسيس من خلال الاستمتاع بالنظر، في زيارتي لملتقى بعض الفنانين التشكيليين استثارتني المنحوتات تناولت موضوع «الإنسان» الفنانين البحرينيين مع أخوتهم الفنانين من الكويت ومصر في ملتقى فني يظهرون طاقاتهم الفنية من خلاله ويعبرون فيه عن الإنسان بالشكل الواقعي الكلاسيكي.
صباح يوم الإثنين الموافق 20 فبراير 2023 الساعة العاشرة أعده يوماً استثنائيا وأنا أدخل «السمبوزيم» ملتقى الفنان الأستاذ علي المحميد «هند كاليري» وأنا أستمتع مباشرة برؤية بصرية المجسمات الطينية التي يعكف الفنانون البحرينيون على نحتها ولإظهار حركتها وانفعالاتها الداخلية من خلال إبداعهم في التفاصيل الدقيقة. إنه فكرٌ ملهمٌ في تجسيد مجسمات بشرية. حاولت أن أستثمر وقتي بنبش مكنونات هؤلاء الفنانين وقفت متسمراً أمام الفنان الأستاذ عبدالرسول الغائب الذي تحدث عن منحوتته الأنثى وهي تحمل طفلاً قائلاً: «مجسمي هذا ارتفاعه متر وثمانين سنتمترا، وكما ترى أماً تحمل طفلاً تعبر عن الأمومة الحانية، وأنت ترى بعينيك ألا تحس من خلال نحتي هذا الحركة في الطفل الوليد وتعلقه بأمه وحركة الأم وحنانها كل ذلك عليَّ أن أجسده بتفاصيله لكي تبدو مغمورة بالأمومة، وهذا يتطلب مني وقتاً.. العملُ فيه متعةٌ رغم التهيئة للمواد الطينية التي يتطلب مني دراسة وعملا دائماً ليقف عليها بناء هذا المجسم، وكما ترى إنه صورة طبيعية. وعندما سألتُه عن التفاصيل وهو يبرز ملامح الفتاة ليتمكن من شدَ بصري لحركتها.. قلت له «هذا جهد يتخيله الفنَّان ولتبدو صورة في مقياسها الطبيعي جداً قال الفنان «الغائب»: يتطلب من النحَّات دراسة علم التشريح للجسم وعند الاشتغال فيه يتخيله أو يلتقط صوراً له كموديل حيٍّ، ولابد أن يبرز العضلات والتعرجات. أنا درستُ التَّشريح في «كرزون» للفنون الجميلة وأعرف مواقع أي عضلة في الجسم وأطبق ما درسته على هذه المنحوتة.
أما الفنان الأستاذ الكويتي النّحات ميثم عبدال أراه منهمكا في نحته لشخصية المرحوم الفنان الكويتي عبدالحسين عبدالرضا.. أبهرني اختياره لشخصية قريبة منه ومن محيطنا الخليجي بتفاصيلها وليست شخصية متخيلة.. حدثني بإحساس الفنان المرهف قائلاً: «من منا لا يتذكر هذا المشهد من مسلسل «درب الزَّلق» اخترت منحوتتي تلامس الخليج ووطني الكويت.. نتذكر هذا صورة المرحوم الفنَّان عبدالحسين عبدالرضا بعدما خسر كلَّ أموال تثمين بيت أبيه وأفلس تماماً، كانت صورته على صندوق الخزانة المفتوحة والفارغة.. لو تأملت في حركته وتفاصيلها تستلهم البسمة من خلال نحت التفاصيل لشخصيته وهيئته وجلوسه وتتذكر بالطبع الكوميديا في أدائه لدوره، فنستلهم البسمة التي ستظل في عين كل مُشَاهد ولكن ستكون ممزوجة بالعبرة.. التي تتجسد أيضاً لنا تتمثل في نهاية الطمع والجشع وتبصر الإنسان بمشاهد نهاية المسلسل من لا يتخذ الطريق الصحيح في عمله فسيخسر».
قلت ُ له: وأنا أنظر في دقة تفاصيل نحتك للمرحوم الفنان عبدالحسين عبدالرضا وشكل جلسته على صندوق الخزنة وهو مفلس تخيلتُ هذا المجسم ورفاقه الفنانين في المشهد وكذلك مجسم آخر للفنان سعد الفرج ومشهد من مسلسل الأقدر في متحف العثمان بمنطقة حولِّي، تلك المجسمات النحتية لها تأثير كبير لو كانت في ركن من أركان متحف العثمان لتكون المنحوتات مشروعاً ثقافياً ترائياً فنياً في زاوية من زوايا المتحف أفضل من صور تذكرنا عن ثلج أبو صالح أو مسلسل الأقدار تبدو لسائح لا تزال باهتة، ألا يستحق هذا المشروع عرضه على المالكين للمتحف لتكون شواهد أيضاً نتذكر من خلالها روعة التشكيل النحتي للفنانين الكويتيين يفخر بهذا الفن الكويتيون والسائحون من بلدان العالم؟
فبادرني قائلاً: «تخيلك فيه إبداع ويستحق الإشادة.. «بتاُثر» والله بكامل الصدق والأمانة نحن وزملائي نحلم بهذا الشيء، ولكن لم نفقد الأمل، عسى الأيام القادمة تكون أجمل وأفضل أتحدث عن نفسي، أنا مستعدٌ أن أكون مع أخوتي الفنانين ونقوم بتجسيم تلك المشاهد نحتاً في المتحف أو أي متحف في وطني الكويت، آمل أن يتبنى هذه الأعمال الفنية أحد رجالات الكويت الأحبَّة الذين يقدرون الفن لكي نجد أعمالنا الفنيَّة التي ننحتها أنصبة تجمِّل ميادين وطننا الغالي الكويت ونرى تفاعل الناس معها ويتأثرون بها ونحس بتذوقهم فنياَ.
لفت انتباهي الفنَّان الأستاذ خليل المدهون رئيس جمعية البحرين للفنِّ المعاصر وأحد منظمي الملتقى الخليجي الأول الذي انعقد من 9 إلى 13 فبراير 2023 وهو ينظر إلى فتاته الرِّيفية التي ينحتها ويحاول أن يضفي حركة على ملابسها بإظهار تفاصيل توحي لها بالحركة وتكسبها فنَّاً وجمالاً، ويقوم بترطيب الطين في أماكن معينة ليباشر النَّحت، فطلبتُ منه أن يحدثني حولها ويبين مدى تأثره بها.
فقال: «موضوع هذا الملتقى.. النَّحت الواقعي وكل فنَّان يحلق بفكره الفنِّي وينحت، فاستحضرت الفنون الشَّعبية وألعابها في وطني الحبيب مملكة البحرين، وهنا ترسخ في ذهني تجسيم هذه الفتاة الرِّيفية التي تلعب لعبة «الحجلة أو لعبة سُكينة» وطبعاً اللباس له دور كبير يبرزها كريفية بالبخنق والتنورة.. أن اختيار الموضوع وإبراز تفاصيله مهارة للنحت، لقد أظهرت حركة الفتاة الجمالية وهذا من الأساليب التي تميزت فيه المدرسة الإغريقية واليونانية في فن النَّحت».
وأنا تعمدت أن أبحث خلال عملي الفني في أهم العادات والتقاليد السَّائدة أو أهم المواقف التي تتجسد فيها شخصية الإنسان البحريني، وجدت أن فنَّ النَّحت دائمٌ ومعمرٌ له ديمومة طويلة ويعتمد عن التَّكوين والهيئة، وكلَّما أظهر الفنان تفاصيل حركته أصبح موطنَ جذبٍ في عين الناظر.
وجهت له سؤالاً أن يحدثني عن صاحب مؤسسة هند كاليري الفنان الأستاذ علي المحميد وأثره الإيجابي في الدفع بالطاقات الشَّبابية نحو الإبداع الفنِّي فقال: «الأستاذ علي المحميد.. الشكرُ قليلٌ في حقِّه، فأستاذنا خامة فنية وطنية وعالمية له حضور عالمي وثقافي متميز وله تاريخ طويل في مجال التَّربية والتَّعليم، وله الفضل الكبير في إبراز وظهور واحتضان الكثير من الفنانين منذ أن كان رئيساً لأكثر من أربعين سنة لجمعية البحرين للفنون التشكيلية، هذا الفنان الأستاذ أعده مظلتي ومستشاري.. الأستاذ الفنَّان المحميد استفدت منه الكثير في الجانب الأخلاقي والتَّفاني والعطاء له تاريخ فني حاضر و شاهد فهو صاحب أول ملتقى في النَّحت على الرُّخام بمنطقة الخليج العربي ، ففي سنة 2003 وخلال ثماني دوراتٍ أصبح “ سمبوزيم البحرين الدولي للنحت مدرسةً . ويستحضرني الفنان المحميد صاحب التَّحديات في ملتقاه الأخير نتذكر جائحة كورونا وبالتحديد في صيف يوليو 2020م قدَّم أعمالاً نحتية تظل شاهدة للفنانين البحرينيين في مطار البحرين الدُّولي. فملتقى «هند كاليري» فني نجده دائماً يحتضن الفنَّانين النَّحاتين ، ويغوص في عمق الإنسان تشكيلا.
بعد هذا الحديث الممتع عن الفنان الأستاذ علي المحميد وجدت محادثته مُتعةً إعلامية لي سأطلب منه التحدث لي عن إنجازاته الفنية.. كان وجودي فرصة في التعرف على هذا المبدع الذي هيأ هذا الملتقى بكل إمكانياته للفنانين. فسألته عن مؤسسته هند كاليري. فقال: «ظهرت مؤسستي هند كاليري بفنها الجميل في عام 2008 وانطلقت لخدمة الفنانين ومساعدتهم ومتابعة أعمالهم وأصبحت ملتقى الفنانين ومكان تجمعهم، وهي اليوم بمثابة أكاديمية تقيم المعارض الفنية للفنانين البحرينيين وغير البحرينيين وتعمل الورش الفنية في النّحت والرَّسم وفي الطباعة وهي مفتوحة، وكثيراً ما نعلن الورش التدريبية ليستفيد منها الشّباب الهواة والحمد لله برامجها الورشية الفنية حققت أهدافها».
وأردف قائلاً: «أنا متخصص في الطباعة بالشاشة الحريرية وهذا عملي منذ السبعينيات ولا أرسم بالفرشاة ولكن أجيد النَّحت بجميع أنواعه على الخشب وبالجبس والطين والرُّخام ، وأول ملتقى نظمته برعاية من إدارة الثقافة التابعة لوزارة الإعلام في 2003 وبعد ذلك توالت الملتقيات فنظمت سبعة ملتقيات فنية أخرها ملتقى «مطار البحرين الدُّولي» شاركتُ بالفنانين النحاتين البحرينيين وقد تحقق للملتقى النجاح وأعمالهم النَّحتية أصبحت موجودة في داخل أروقة المطار وخارجه».
اليوم «هند كاليري» تقيم هذا «السمبوزيم» في صالاتها للفنانين البحرينيين النحاتين بالطين، فمنذ أسبوع ونحن نحضر الطين ونعمل لننجز المجسمات النَّحتية وشرطنا الوحيد أن تكون الأعمال تغوص في الإنسان وتنحت بالحجم الطبيعي أن تكون المجسمات كلاسيكية ولو أن القليل منهم نفذ منحوتات تجريدية. وكان هدفنا من المنحوتات الطينية أن تكون كلاسيكية واقعية لأننا نرى أنها نادرة التنفيذ في وطننا مملكة البحرين».
وارتأينا أن يشارك كل فنَّان بعمل واحد يضع فيه كل إمكاناته الفنية ويتعرف من خلال العمل على منحوتات الفنانين الآخرين وبعد الانتهاء سنعمل لهم قوالب من الجبس ونصُبهم في القوالب لأن الطين لا يمكن أن نحتفظ به مدة طويلة، وأنت تعرف أن المجسمات المنحوتة بالطين ثقيلة لا يمكن تحريكها.. من خلال هذا الملتقى الفنِّي الجميل أحببت أن أجمع الفنانين وعددهم بسيط في ألفة ومهارة لكي يعملوا بهدوء ليكون إنتاجهم فنياً مركزاً وسوف نستعد بعد هذا النحت لإقامة المعرض الذي سنعلنه للجمهور الكريم ويحتوي المجسمات النَّحتية للفنانين في صالات هند كاليري».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك